ثروات طبيعية في مواجهة التغيرات المناخية: أيّ مستقبل للمنظومة الايكولوجية بولاية جندوبة ؟


على مساحة قدرها 3102 كلم شمال غربي البلاد التونسية تتمركز ولاية جندوبة، القلب النابض والخزان المائي للبلاد، اذ تحتوي ما يقارب 14 بالمائة من الموارد المائية الوطنية لسنة 2022 حسب تقرير المندوبية الجهوية للفلاحة. وعلى الرغم مما تمثله الموارد المتواجدة بالمنطقة من ثروة طبيعية هامة،إلا أن الوضع البيئي الحالي والتوقعات المستقبلية تنذر بالخطر وتدعو الى ضرورة وضع حد لتدهور الوضع البيئي بالمنطقة كما أن التغيرات المناخية التي يشهدها العالم وما يرافقها من إرتفاع درجات الحرارة وتراجع معدل التساقطات و بروز ظاهرة الانجراف البحري إضافة الى ارتفاع وتيرة الحرائق الغابية، أدت الى فقدان العديد من الأصناف النباتية والحيوانية مما أثر سلبا على التنوع البيولوجي بالمنطقة بريا وبحريا.

ويحاول هذا التقرير لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنجز ضمن دورة التبادل الشبابي بولاية جندوبة 2022 الوقوف على مختلف هذه الاشكاليات.

ثروة بيولوجية في طريقها الى الاندثار

رغم المناخ الرطب لولاية جندوبة وأهمية مواردها الطبيعية، إلا أن تفاقم التأثيرات السلبية الناتجة عن التغيرات المناخية قد طالت التنوع البيولوجي وأخلت بالنظم الإيكولوجية البرية والبحرية بالمنطقة. فجندوبة بغاباتها الممتدة وسهولها الخصبة من المفترض أن تؤمن البيئة الملائمة لنمو العديد من الأصناف النباتية والحيوانية التي تشكل جزءا مهما من النظام البيئي، اذ تلعب دورا بارزا في حماية التوازن الإيكولوجي وحماية الأمن الغذائي، غير أن العديد منها إنقرض والبعض الاخر أصبح اليوم مهددا بالانقراض مثل الأيل الأطلسي وإبن أوى وطير بومزين، وذلك بسبب الأنشطة البشرية وعوامل الطبيعة. .ويتواصل هذا الامر في مخالفة تامة لاتفاقية الامم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي والتي تعد صكا قانونيا دَوْليّا لحفظ التنوع البيولوجي واستخدامه على نحو مستدام. و تنص على التزام الدول الأطراف بصون التنوع البيولوجي وضمان الاستخدام المستدام لمكوناته، وقد تمت المصادقة عليها من طرف البلاد التونسية بموجب القانون عدد 45 لسنة 1993.

ويمثل الصيد العشوائي وتغيير صبغة الاراضي عبر زراعة المساحات الغابية بفعل التوسع العمراني من اهم المخاطر المحدقة بالثروة الغابية وذلك رغم تنظيم الدولة ممارسة حقوق الانتفاع بملك الدولة للغابات منذ 1988 عبر قرار وزير الفلاحة المؤرخ في نفس السنة. كما تواترت الظواهر المناخية المتطرفة مثل الحرائق والفيضانات والانزلاقات الارضية وارتفاع درجات الحرارة التي بلغت معدلات قياسية خلال السنوات الفارطة وصلت ما يقارب 52 درجة مئوية مقابل تراجع معدل هطول الامطار من 800 مم الى 600 مم بين 2018 و 2021كل هذه الظواهر القت بظلالها على الجانب البيئي بالجهة ما سبب خللا في التوزان الايكولوجي عبر فقدان منتوج اغلبية الغابات المحدثة مثل اشجار الصنوبر والصنوبر الحلبي. كما توجد في جندوبة وتحديدا غابات فرنانة اصناف نباتية ذات صبغة عطرية وأخرى طبية قد لا تسمح الظروف المناخية الحالية وممارسات الاستخدام غير المستدام بديمومتها مثل الحلحال و الذرو والريحان والفطريات، حسب ما افادتنا به الناشطة بجمعية نساء من أجل المواطنة والتنمية سعاد الوذيني التي أكدت على انعكاساتها السلبية على الثروة الحيوانية بالمنطقة.

وتتواصل هذه الانتهاكات للثروة الغابية في مخالفة للقوانين المحلية والمواثيق الدولية المنظمة مثل اتفاقية باريس حول المناخ والتي صادقت تونس عليها بموجب القانون الأساسي عدد 72 لسنة 2016 المتعلق بالموافقة على “اتفاق باريس” حول المناخ لتنفيذ الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ.

كما تشهد الثروة البحرية بمعتمدية طبرقة بدورها انتهاكات جسيمة ساهمت في اختلال التوازن البيولوجي البحري، وذلك بسبب الاعتداء على الملك العمومي البحري عبر التوسع في البناءات القريبة من الكثبان الرملية، حيث تم قطع النباتات التي كانت تمثل حاجزا لمنع تقدم رمال الشاطئ واستبدالها بنباتات للزينة داخل المناطق السياحية دون الاخذ بعين الاعتبار ظاهرة الانجراف البحري حسب ما أكدته لنا العضو في جمعية نساء طبرقة لمياء المنصوري مشيرة الى أن عدم صيانة الشاطئ الصخري المتواجد بالقرب من ميناء طبرقة وعدم تهيئة مصدات الامواج ساهمت في تفاقم ظاهرة انحسار الشاطئ بشكل ملحوظ.

 ألسنة اللهب تلتهم غابات فرنانة: ما تأثيرها على الثروة الغابية؟

بين المسالك الوعرة المؤدية الى منطقة عين الدبة من معتمدية فرنانة والقابعة في اعلى القمم الغربية لشمال البلاد، إندلعت حرائق هائلة دمرت مساحات شاسعة من غابات جندوبة في درجات حرارة تجاوزت 52 درجة مئوية مسجلة بذلك رقما قياسيا ساهم في تأجيج الحرائق التي مثّلت الرياح وقودا ممتازا لتوسع حلقاتها وانتشارها على مسافات أوسع، وذلك بمعدل 3 كلم خلال 30 دق حسب ما أكده لنا مصدر مطلع من ادارة الغابات بعين دراهم. وقد أثرت الحرائق التي اشتعلت صائفة 2021 والتي بلغ عددها 144 حريقا في اعلى معدل وطني على العديد من النباتات والحيوانات، حيث التهمت النيران حوالي الف هكتار من الاشجار وهو ما تسبب في خسائر معتبرة في الثروة الحيوانية والنباتية تمثلت  بالأساس في اتلاف مساحات شاسعة من الغطاء الغابي وبالتالي اتلاف الحشرات والحيوانات والنباتات مثل أشجار الصنوبر وهي من الاصناف النباتية غير القابلة للتجدد، وكذلك هجرة بعض الطيور وتدهور التربة وتآكلها،كما تسببت الحرائق في انجراف التربة وتفقيرها واختلال النظام البيئي بأكمله وتدمير مواطن التنوع البيولوجي ومآلف الحيوانات والعصافير.

تشير أغلب المؤشرات الى أن الفعل البشري يقف وراء الخسائر الهائلة والزيادة الواضحة جدا في ترددات الحرائق الغابية ببعض الولايات ومن بينها جندوبة، وقد رصدت مصالح الحماية المدنية بالتعاون مع اعوان إدارة الغابات بعين دراهم أن نشوب النيران تم في مناطق متباعدة يصعب وصول معدات الاطفاء اليها، وذلك بهدف تشتيت مجهودات أعوان الاطفاء وإضعاف قدرتهم على مجابهة هذه الكوارث المفتعلة. ورغم فتح تحقيق في الغرض للتعرف على ملابسات هذه الجريمة إلا انه لم يتم الى اليوم تحديد الأسباب الكامنة وراء اقدام الجناة على هذه الافعال.

ما يجب على الدولة فعله

إن الآثار الناجمة عن الحرائق لن تزول من الغابة إلا بعد سنوات عديدة ولن تتمكن الحيوانات التي هربت من الحرائق من العودة مرة أخرى إلى بيئتها الأولى إلا بعد سنوات مديدة لذلك لا بد من اتخاذ الإجراءات التالية كالتشجير لتجديد الغطاء النباتي مع مراعاة اختيار الأنواع المناسبة للعيش في تلك الغابات، وأيضا تجنب الرعي الجائر للماشية. كما ندعو إلى إنشاء محميات توفر أماكن آمنة لأنواع عديدة من النباتات والحيوانات والقطع المنظم للأشجار، ناهيك عن الحفاظ على التربة والغابات، والمحافظة على المياه وتوفيرها وإزالة أوراق الأشجار الجافة و ضبط التلوث الصناعي وإعادة تأهيل الغابات المحترقة مع صيانة الممرات المخصصة لوقف انتشار النار.

كما سجلت نسبة التساقطات تراجعا في الاعوام الاخيرة نتيجة للاضطرابات التي يشهدها المناخ لتنخفض من 1133مم الى حدود 900 مم خلال 03 سنوات الفارطة. وتعتبر الامطار المورد الاول لتعبئة السدود وتغذية الاراضي والمحاصيل الفلاحية ، ما من شأنه أن يؤثر على مستقبل الموارد المائية بجهة جندوبة ومنطقة الشمال الغربي عامة. وهذا ما يضع الدولة التونسية امام تحد ملح يتطلب منها ضرورة الاعتراف الاستراتيجي بأهمية القطاع المائي والبيئي عامة إضافة إلى تكثيف اجراءاتها الوقائية والاستباقية حتى تتمكن من توفير بيئة امنة وتحقيق تنمية مستدامة تضمن لأجيال الحاضر والمستقبل حقوقهم البيئية كاملة.

تعليق جديد

فريق التحرير




مقالات أخرى للكاتب

فريق التحرير