معضلة التلوث الصناعي بولاية جندوبة: وحدات صناعية منتجة للموت والأمراض


بين جهل بحجم المخاطر التي تصيب البيئة والمحيط وتلوح بمستقبل دراماتيكي للاجيال القادمة وبين غطرسة المنشآت الصناعية وتمردها على القوانين والتشريعات تحت حماية السلطة وتواطؤ مؤسساتها، وبين واقع اجتماعي واقتصادي متأزم طوع الواقع وقلب المعادلة لفائدة الانتاج الصناعي على حساب سلامة البيئة وصحة الناس، تاهت الخطط التنموية وكثرت الانتهاكات وتفاقمت المشاكل حتى تعممت الكوارث وتقاسمتها كل الجهات تقريبا. اعتداءات كبيرة وملوثات عديدة ناتجة عن المشاريع الصناعية التي لم يردعها رادع ولم توضع لها الضوابط الكافية للحد منها.

يهتم هذا المقال بالوضعية البيئية بولاية جندوبة التي تتذيل الترتيب الوطني من حيث مؤشر التنمية. وتحتل المرتبة 22 من جملة الولايات حسب وثيقة المخطط الجهوي للتنمية 2023-2025 التي تضبط الرؤية الاستراتيجية للتنمية بالجهة رغم ثراء مخزونها الطبيعي والبشري وموقعها الجغرافي المتميز. هي عينة من الولايات التي همشتها سياسات الدولة وتجاهلتها كل البرامج التنموية واستنزفتها الوحدات الصناعية فزادت من معاناة سكانها الذين لم ينبهم منها شيء غير الامراض والمتاعب. وتتركز بالجهة مجموعة من المصانع الملوثة والمضرة بالبيئة والمخالفة للقوانين ولقواعد الصحة. مصانع تستنزف الثروات الطبيعية وتنتهك حقوق الانسان وتتجاهل نداءات وصرخات الناس.

وتتوزع المناطق الصناعية بولاية جندوبة في معتمديات جندوبة وجندوبة الشمالية وبوسالم وطبرقة ومن بين أهم الوحدات الصناعية الملوثة بالجهة والتي كانت محور زيارات ميدانية قمنا بها في إطار برنامج التبادل الشبابي الذي نظمه قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في جوان 2022 نذكر معمل الحليب والالبان “دليس” المنتصب بمعتمدية بوسالم ومعمل الخميرة بالمركب السكري ببني بشير التابعة لمعتمدية جندوبة الشمالية.

مصنع الريان لإنتاج الخميرة تجاوزات بالجملة وغياب للرقابة

يعاني اهالي منطقة بن بشير التابعة لمعتمدية جندوبة الشمالية منذ عقود من تدهور الوضع البيئي بالمنطقة جراء ضخ المياه المستعملة للمعمل في احواض قريبة من سكناهم. احواض تحولت الى مستنقعات ومسكن للحشرات حولت بدورها المنطقة الى مَكْرَهة صحية ونقطة سوداء منفّرة للسكان. ظاهرة تصريف المياه الملوثة مباشرة في الوسط الطبيعي وقرب التجمعات السكنية دون القيام بالمعالجة الاولية تكررت وتعممت تقريبا في كل الجهات وبدلا من ان تكون المصانع رافدا للتنمية بحيث تساهم في النهوض بالوضع الاقتصادي والاجتماعي وتعود بالفائدة على المجتمع المحلي باتت مصدرا للكوارث ومحركا للاحتجاجات. وقد شهدت جهة جندوبة طيلة العشرية الاخيرة عدة تحركات احتجاجية نظمها اهالي المناطق المتضررة ونشطاء المجتمع المدني الذين يطالبون بالحق في بيئة سليمة والحق في التنمية، “تنمية حقيقية” كما تريدها جندوبة على لسان ابنائها اعضاء تنسيقية “جندوبة تريد تنمية حقيقية” الذين دام اعتصامهم لأشهر وانتهى بعقد مجلس وزاري سنة 2019 في حكومة يوسف الشاهد انبثقت عنه جملة من القرارات لم تر النور الى اليوم.

“جل الاحتجاجات التي قامت على خلفية مطالب بيئية لم تلق من الطرف المقابل غير التجاهل والتعنت وواجهتها السلطة اما بالوعود والمماطلة أو بالقمع، في تواطؤ واضح مع المخالفين واصحاب النفوذ”. هذا ما جاء على لسان السيد منجي الزايدي، أحد اهالي جندوبة وناشط في المجتمع المدني الذي أكد لنا مواكبته لجلسات التفاوض المنعقدة على مر السنوات الفارطة والتي لم تفض الى حل نهائي، على غرار جلسة 15 جوان 2022 التي خصصت لمتابعة ملف التصرف في مياه غسيل الخميرة تحت اشراف وزير الفلاحة والصيد البحري آنذاك والتي تقرر على إثرها الانطلاق الفوري في تركيز مشروع محطة التطهير وتمكين المعمل من المساحة المناسبة خلال ثلاث سنوات مقابل تعهد الشركة بدفع تعويضات على الاراضي التي ستستغلها والالتزام بالتدابير اللازمة.

لكن غياب الجدية في تطبيق القرارات وعدم الالتزام بالتعهدات ساهم بشكل كبير في فقدان الثقة في السلط وفي القوانين الموضوعة وأدى الى تراجع منسوب الاحتجاج والتطبيع نوعا ما مع التلوث، خاصة في ظل هشاشة الظروف الاجتماعية والاقتصادية بالجهة وصعوبة تحقيق المعادلة بين الحق في الشغل والحق في البيئة السليمة كما يروّج لها لشل عزائم المحتجين وتفكيك صفوفهم وفق ما جاء على لسان عمر القندوزي أحد شباب منطقة بن بشير.

لا يمثل معمل الخميرة الوحدة الصناعية الوحيدة التي تلوث البيئة وانما هو جزء من شبكة من المصانع والمنشآت المتركزة بالجهة. وخلال دورة التبادل الشبابي اطلعنا ايضا على مشكل معمل “دليس” المنتصب بمنطقة الروماني التابعة لمعتمدية بوسالم.

معمل “دليس” عينة اخرى من الملوثات الخطرة

كثرت تشكيات أهالي منطقة الروماني من معتمدية بوسالم بولاية جندوبة من الدخان الملوث الصادر عن أحد مصانع الحليب المجاورة لتجمعهم السكني، وكثرة الروائح التي باتت تهدد صحتهم وصحة اطفالهم، الى جانب تسرب المياه الملوثة الى الاراضي الفلاحية المجاورة وعبر مياه وادي مليان ونفوق المواشي والحيوانات مما تسبب في خسائر مادية لعدد من الفلاحين. وقد التقينا بأحد اهالي المنطقة، السيد عامر الخميسي، فلاح صاحب مشروع لتربية النحل، الذي أفادنا بأن كمية العسل المنتجة وجودته تراجعت بسبب تأثر مراعي النحل بالتلوث الناتج عن ركود المياه وعن الدخان.

وحسب تصريح المدير العام للشركة، التركي العبيدي، لموقع البيئة نيوز في شهر مارس 2018 فإن وجود الدخان ناجم عن استخدام أحد انواع الطاقة الملوثة “الفيول” وأن مسالة الدخان الصادر من المصنع كان يفترض أن تنتهي حال وصول الغاز ليحل محل “الفيول” علما وان هذه المادة تستخدمها المصانع نظرا لضعف تكلفتها مقارنة بتكلفة الغاز.

وازاء هذا الوضع قام الاهالي بالتظلم لدى السلطة المحلية ولمعتمد الجهة. ونظرا لعدم تجاوب سلط الاشراف مع مطالبهم قاموا بوقفات احتجاجية في شكل تصعيدي تعبيرا عن استيائهم ورفضهم للانتهاكات والتجاوزات البيئية وللمطالبة بحقهم في التنمية وبأولوية تشغيل ابناء المنطقة في إطار المسؤولية المجتمعية للمصنع. لكن كل هذه التحركات قوبلت بالرفض وعدم الاكتراث. بل تعرض ايضا المحتجون للقمع والتجريم والسجن ليتواصل بذلك مسلسل قمع السلطة لأصحاب الحقوق خدمة لمصالح اصحاب النفوذ.

قوانين غير مطبقة وسلطة متواطئة

رغم ترسانة القوانين التي تنظم القطاعات وتحمي البيئة وحقوق الانسان، ورغم دستورية الحق في بيئة سليمة وفي العدالة الاجتماعية وفي التنمية المستدامة وانخراط تونس في عدة مؤتمرات دولية وامضائها لعديد الاتفاقيات وتعهدها بجملة من الخطط التي ترمي الى حماية البيئة بكل مكوناتها وضمان استدامتها وحماية حقوق الاجيال القادمة فان الشرخ الحاصل بين ما هو نظري وتطبيقي قد توسع وازداد حدة. كما ان تواطؤ مؤسسات الدولة خاصة الموكول عليها مراقبة التجاوزات وردعها وتنفيذ القوانين بات جليا مما أفقد الثقة في السلطة وغذى لدى عموم الناس شعورا باللاانتماء والرغبة في مغادرة البلاد.

تساؤلات عديدة تجول بخاطرنا في علاقة بدور وزارة البيئة ووكالة حماية المحيط ومدى جدية اللجان الموكول لها صلاحيات منح الرخص والتأشير على دراسات التأثير على المحيط ورقابة انشطة المصانع ورصد المخالفات وردع المخالفين. الى جانب مدى قابلية عدة قوانين للتطبيق على غرار قانون المسؤولية المجتمعية الذي يمثل ترجمة لعدم جدية الدولة التونسية في تطبيق خطط التنمية المستدامة والنهوض بالجهات الداخلية وتنمية المجتمعات المهمشة.

امثلة لبعض القوانين المنظمة لأنشطة الوحدات الصناعية والمنشآت التي من شأنها ان تضر بالبيئة والمحيط:
- القانون عدد 87 لسنة 1983 المؤرخ في 11 نوفمبر 1983 المتعلق بحماية الأراضي الفلاحية وجميع النصوص التي نقحته وتممته
- القانون عدد 91 لسنة 1988 المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لحماية المحيط
- القانون عدد 70 لسنة 1995 المؤرخ في 17 جويلية 1995 المتعلق بالحفاظ على المياه والتربة
- القانون عدد 34 لسنة 2007 المؤرخ في 04 جوان 2007 المتعلق بجودة الهواء
- القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار
- القانون عدد 35 لسنة 2018 المؤرخ في 11 جوان 2018 المتعلق بالمسؤولية المجتمعية للمؤسسات

ازاء تفاقم الاشكاليات البيئية وكثرة التهديدات التي لحقت البيئة وضرت بصحة الانسان ومستقبله وأمام تعنت السلطة واعتمادها سياسة الابواب الموصدة والأذان الصماء وتواطؤها مع المنتهكين بات من الضروري ان تتوحد مجهودات المجتمع المدني وكل المهتمين بالشأن البيئي والمدافعين عن حقوق الانسان والخبراء والباحثين من أجل التصدي للانتهاكات ومناصرة اصحاب الحقوق والمساهمة بشكل فاعل في صياغة مقترحات قابلة للتطبيق والدفع نحو تغيير السياسات التنموية والاقتصادية وتغيير منظومات الانتاج بالشكل الذي يحافظ على البيئة ويضمن استدامتها الى جانب العمل على تغيير العقليات ونشر الوعي بأهمية الحقوق البيئية ومدى ارتباطها ببقية حقوق الانسان. كما لا ننسى أهمية اللجوء الى القضاء لتكريس العدالة البيئية وفرض تطبيق القانون باعتبار ان الحق في التقاضي حق مدستر لا غبار عليه.

تعليق جديد

فريق التحرير




مقالات أخرى للكاتب

فريق التحرير