كيف نقرأ العشر سنوات التي مرّت على تونس!!؟
واحدة من التحدّيات الأساسية التي تطرحها علينا هذه المحنة، هو كيفية قراءة السنوات العشر الأولى من تجربة الانتقال الديمقراطي، فقراءة المراحل التاريخية المعاشة غالبا ما تختلف عن قراءة المراحل التاريخية البعيدة التي يمكن أن تكون حركة المصالح المتصلة بها منعدمة أو شبه منعدمة، وهو ما يفسح مجالا أكبر للعقلانية والموضوعية في قراءتها، خلافا للمراحل المفتوحة الراهنة التي ما يزال الصراع حول مصالحها قائما على أشدّه. فضلا عن حيز المشاعر المتدفّقة، سواء في اضفاء العصمة عليها، أو وصمها باللعنة المطلقة.
وتقديري أن نوعية القراءة ستكون محدّدة للسلوك السياسي، خصوصا سلوك النخب، بين قدرة على بناء الائتلافات الواسعة القادرة على ربح رهانات وقف التدهور وإعادة المسار إلى سكّته الطبيعية، أو الابقاء على حالة التشرذم والانقسام وهو ما سيمدّ في عمر القوس بدل اغلاقه سريعا، إن لم يجعله قوسا مفتوحا على مزيد من الدراما والنهايات الفاجعة .
فقراءة مثل هذه المراحل تقتضي قدرا كبيرا من نكران الذات، وأذكّر هنا بحالة عشتها وانخرطت فيها مباشرة بعد الثورة، عندما تعلّق الأمر بقراءة عقود الدولة الوطنية المستقلة، عندما كان التوجه الغالب هو شيطنتها و"تسويدها" كما يفعل اليوم مع "العشرية"، في حالة انكار غريب لمنجزاتها وتصويرها ظلما مطلقا لا بياض فيه، قبل ان ينقلب الحال لاحقا إلى تمجيد مطلق أيضا وترحّما على ايام العز والسعادة، فيما الحقيقة بين الأمرين حتماً.. إذْ أن الأمر كان يقتضي تغليبا لروح المصالحة الوطنية ووقوفا موضوعيا عند نقاط الضعف والقوة..نقاط ضعف يجب معالجتها ونقاط قوة ومكتسبات لا بد من الحفاظ عليها ورعايتها.
ولعلّ أخطر ما في موضوع من هذا النوع من القراءات، هو التجرّد من ضغوط النفس والذات، فأن يكون المرء معارضا مثلاً عاش آلاما شديدة ومحنا قاسية، ثم تراه قادرا على تجاوز هذه المحنة ورؤية المشهد من زاوية عامة يجعله أقرب إلى الانسانية، ولدينا أمثلة كثيرة من معارضين استطاعوا تحقيق ذلك فلم يتركوا سبيلا للتشفي أو الانتقام.
وكذلك الحال في هذه المرحلة، حيث نرى بعضهم قد عاد الى ذات الرؤية الذاتية الضيقة، حيث يعتقد البعض ان تجربة الترويكا على سبيل المثال كانت وردية بلا اخطاء، وأن النداء كان ثورة مضادة رغم ان انهيار النداء كان في واقع الامر مقدمة لانهيار التجربة برمتها اذ فتح هذا الانهيار المجال الفاشية والشعبوية وهو ما حذّرنا منه في الإبّان، وهكذا نرى خطابات تريد أن تقرأ على نحو "لطمي " المسألة، سواء تعلّق الأمر بإحياء الثارات والانقسامات القديمة، أو العودة إلى ثنائيات الحق المطلق المعصوم في مواجهة الباطل المطلق المذموم، والأخيار الانقياء الذين يواجهون الأشرار الأتقياء، وهي ثنائيات متهافتة تصبّ في صالح الحكم الشعبوي القائم الذي استمد شرعيته من هكذا تفكير بائس لا مرجعية عقلانية وانسانية وديمقراطية له.
فالحذر كلّه من هكذا خطابات تقوّي جرعة الشك وتحول دون قيام أرضية مشتركة للعمل الجماعي المطلوب بين كافة القوى الديمقراطية على اختلاف مرجعياتها الفكرية وتباين مواقفها السياسية سابقا وحاضرا ومستقبلا .
تعليق جديد