مشروع دستور يخدم السلطة ويخنق الحرية


نحن نُدرس طلبتنا أنّ الغاية من الدساتير الديمقراطية هو خدمة الحرية، فالحرية هي الاصل والمبدأ والتضييق عليها هو الاستثناء ولا يكون، الاستثناء مقبولا الا اذا كان في خدمة الاصل والمبدأ بمعنى ان الحد من الحرية في النظام الديمقراطي لا يكون مقبولا الا اذا كان سبيلا لخدمة حرية أو حريات اخرى. فلا معنى للديمقراطية دون قيمتي الحرية والمساواة، ولا معنى للمساواة في غياب شرط الدولة المدنية.

لقد كنا نعتقد أننا بلغنا مرحلة تاريخية ملائمة لتكريس لائكية الدولة، فوجدنا أنفسنا امام حذف الحد الادنى وهو الدولة المدنية ... فصحيح ان النظام الجمهوري في الاصل وفي حاضنته الديمقراطية يعني الدولة المدنية والفصل بين السلط والتداول السلمي على السلطة، ولكن في المرجعية الثقافية للرئيس قد يكون المقصود بالنظام الجمهوري ما يتعارض فقط مع النظام الملكي، ولنعلم أن النظام في ايران نصّ ايضا على اعتماد الجمهورية، لنعي خطورة الاكتفاء بالتنصيص على النظام الجمهوري دون تكريس مدنية الدولة.

وحتى نعي ونستوعب مكانة حقوق الانسان والحرية في التصور الجديد، يمكن أن نقيم مقارنة بين الفصل 49 من دستور 2014 والفصل 55 من مشروع دستور الرئيس. فالحرية هي الاصل ولا يمكن الحد من الحرية الا لضمان حريات أخرى.

نص الفصل 55:"يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفّل الهيئات القضائية بـحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك.

لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور". فالحرية هي جوهر هذا الفصل في بنيته النصية والدلالية.

ولكن إن قرأنا الفصل 55 من مشروع الدستور من جهة اخرى، فهو يضفي أنّ الحرية مقيدة ومحدودة وتخضع للسلطة التقديرية للمشرع. يعني ببساطة عودة لمنطق الفصل 7 من دستور 1959. ما يمنح بالدستور يسترد ويلتف عليه بالقانون، إذ يمكن للمشرع أن يوظف الطابع العام والمطاطي لمقتضيات التقييد ليحد من الحريات، ولم يلزمه الدستور بضابط " الضرورة التي تقتضيها الدولة المدنية والديمقراطية"... ويمكننا القول أنه نص باهت وضعيف طغى عليه العقل السلطوي.

وبالنسبة لمقاصد الشريعة، فيمكن أن تُستغل للتضييق على الحريات وتكريس التمييز في القانون من قبل المشرع لضرب مبادى حياد الدولة والادارة، خاصة مع غياب تكريس واضح لتبني المنظومة الكونية لحقوق الانسان.

ثم أي معنى لنظام ديمقراطي دون توازن حقيقي للسلطات، فكل السلطات وظائف ومرافق يرأسها الموظف السامي/ الاعلى وهو رئيس الجمهورية. وهذه أعتبرها شخصنة واضحة للسلطة، وتغييب فكرة السلطة يضعف من منطق المأسسة لحساب منطق الشخصنة والاستبداد.

نمر الآن لمراجعة الفصول المتعلقة بالوظيفة التنفيذية، لنجد صلاحيات واسعة وتغولا للرئيس دون أن يكون مسؤولا. فهو رئيس يفعل كل شيء ولا يتحمل أية مسؤولية.
ثم نأتي إلى باب السلطة القضائية: لم يعد هناك مجلس أعلى للقضاء بل مجالس قضاىية قطاعية ( عدلي، اداري ومالي)، وهذا ضرب لوحدة القضاء وتشتيته، خدمة لمشروع الرئيس لوضع يده على القضاء وتوظيفه. وبذلك لا يوجد سلطة قضائية بل سيكون هناك قضاة تابعون للسلطة التنفيذية.

والمحكمة الدستورية ضمانة التوازن الحقيقي وحامي الحقوق والحريات تتركب في مشروع دستور الرئيس من كبار القضاة وأقدمهم، والذين تلعب السلطة التنفيذية دورا كبيرا في تعيينهم وتقدمهم في مسارهم المهني ووصولهم الى المسؤوليات العليا. تركيبة تقنية مع تغييب العنصر الاكاديمي المختص في القانون وفلسفة القانون، وهو ما سيجعل من المحكمة هيكلا تقنيا محدود الافق وتابعا للرئيس.

أما السلطة التشريعية فدورها يختزل في غرف لتسجيل مشاريع القوانين، والمصادقة عليها وسلطاتها محدودة. فنحن نرى تغول السلطة التنفيذية من خلال الغاء الهيئات الدستورية المستقلة، وهي هيئات تخلق توازنا جديدا بين السلطات وتمثل قوة مضادة ضد تغول السلطة التنفيذية وتلعب دورا تعديليا يتماشى مع التطورات التي شهدها دور الدولة. وعدم دسترة المعارضة البرلمانية ودورها وهي ضمانة التوازن في الانظمة الديمقراطية الحقيقية. اضافة الى تقزيم وتهميش السلطة المحلية، والعودة الى النمط الفرنسي التقليدي القائم على المركزية المشددة خدمة لنوازع التفرد والتغول، مع ضعف البعد الاجتماعي للدولة ( اشارات محدودة ،باهتة وهلامية مطروحة بشكل لا الزامي و لا تقعيدي وباسلوب شعبوي).

هو ديكور حقوقي لامعنى له في غياب الضمانات الحقيقية لاحترام الحقوق والحريات، وفي الجوهر نظام رئاسوي تسلطي ورؤية تقليدية محافظة ضيقة، حبيسة تصور مشخصن، ومصاغة باسلوب انشائي، ضعيف وشعبوي.


الخلاصة: دستور الشعبوية؛ التوطئة الثورجية، والجوهر التسلطي المكرس للقديم في حلة أكثر تسلطا وفجاجة .

تعليق جديد

محمد الحباسي




محمد الحباسي