على المفكر أن يعمل فكريا على عودة العقل والحرية إلى مسار ربوعنا
ملاحظة أسوقها بعد عودة خزعبلات التكفير عندنا مثل سجن الفاطرين وعودة مدح المشعوذين والدفاع عن العادات البالية كالزواج العرفي والسحر والسماح لتدريس الأفكار البالية المتحجّرة وذات الأبعاد الإرهابيّة لأطفالنا ولاستقبال البنات الصغريات وهن محجّبات استقبالا رسميّا وغير ذلك في تونس الحبيبة التي شهدت ثورة فكريّة عقليّة قام بها آباؤنا منذ القرن التاسع عشر وتجسّدت عند جيل الزعيم بورقيبة ولكنّها تراجعت لاسيّما بعد الثورة.
يقول أبو القاسم الشابي وكأنّه يتحدّث عن وضع العقل عندنا :
والعقلُ رغْمَ مشيبهِ ووقَاره، ما زالَ في الأيّامِ جِدَّ صغيرِ
يمشي، فتصرعه الرياحُ، فَيَنْثَنِي مُتوجِّعاً كالطّائر المكسورِ
حتّى أكون صريحا وصادقا لابدّ لي أن أدوّن ما يلي عن منزلة العقل عندنا في تونس وفي العالم الإسلامي : المتصفح في استعمالات العقل عندنا كما نجدها اليوم في المجالات الحياتية العامة وفي المجالات السياسية يلاحظ من أول وهلة الشرخ العميق الذي يسكنها. فمن ناحية تتقبل هذه المعقولية كل ما يرد عليها من تكنولوجيات متتطورة في الثورة الرقميّة ولكنها وفي الآن نفسه تنقد كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة ونعني الحداثة وتجلّياتها ومستتبعاتها. فمثلها مثل من يمتطي كل يوم سيارته ويستعمل أعصر الوسائل لقيادتها ويلعن في الآن نفسه الحداثة ومن كان سببا فيها ويلعن الغرب وأهله وأنماط حياتهم وهلم جرا من هذه المستهترات. وقد يزداد هذا الشرخ عمقا عندما نعرف أن مرجعية هذه المعقولية تبقى دائما متأصلة في السلف وما أنتجه بينما هي تحاول استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا فتكون بذلك مستهلكة غير مبدعة في هذا الشأن، بل غير قادرة على الحضور في العالم.
نعم هي معقولية مازالت في طور التجميع و التفتيش والتأريخ والنقل والتنقيل والشرح والتفسير. ولم تصل بعد إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات إلا ما ندر. فهي معقولية نقلية في الأساس لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي لأنها مازالت تحت وطأة المحرمات والممنوعات والمحجرات بأنواعها المختلفة على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الديني والاجتماعي.
وهي ما تزال في مرحلة الوجداني والانفعالي والغريزي. وقد شدد الفلاسفة منذ أفلاطون على حيوانية هذه المرحلة واعتبروا أن الإنسان يكتسب إنسانيته متى استنجد بالعقل ومتى أصبح يتعامل مع حياته اليومية بالعقل والتعقل ولا بالعواطف والغضبية والوجدان.
فمعقوليتنا في غالبيّتها ليست معقولية التحليل، والبحث، والدرس والتحقيق والنقد وبالتالي فهي ليست معقولية الإبداع والابتكارات العلمية والاكتشافات التكنولوجية. مازلنا تحت وطأة التكفير والتحريم بالرغم عن محاولات المصلحين المتعدّدة. نحن مازلنا نرمي في غياهب السجون من يخرج عن الجماعة رغم ضمان الدستور لحرّية الضمير.
لا تزال معقوليّتنا في مرحلة الشعارات والأحكام السريعة والمواقف الإيديولوجية. يرى د. شاكر النابلسي أنها أشبه بالثقافة العربية في العهد العثماني. هي ثقافة تعتمد "السحر والشعوذة والخرافة والتقديس والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة". زد على ذلك أنها لم تتعلم فعالية السؤال في حد ذاته. فهي تبقى معقولية الأجوبة الجاهزة كالتي تأتيك بالتأكيد من فضائيات هيمن عليها "أصحاب العمامات الفارغة" حسب تعبير المقدسي.
معقوليّتنا الآن ما تزال خاضعة إلى منهجية المحاكاة في تعاملها مع قضايانا اليومية. مازالت تبحث عن أقوال السلف وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل. فلحل مشاكلنا الاجتماعية والشخصية نعود إلى الكتب القديمة وأقوال السلف وأعمالهم لنجد الحلول أحيانا عند المشعوذين والدجالين وأحيانا عند شيوخ الماضي وكان لديهم مفاتيح العلوم كلّها. فالوعي السلفي الذي يسود اليوم عندنا بل في المعقولية العربية هو وعي مغلق ومتحجر يقوم على عبادة الأسلاف ويرفض كل إبداع وكل تفكير عقلي مشفوع ببرهان.
لذلك على المفكّر أن يعمل فكريّا على عودة العقل والحرّية إلى ربوع مسارنا وأن يكون ناقدا جذريّا لا يهاب الشعبويّة.
أيّها الشعب، ليتني كنت حطّا با فأهوي على الجذوع بفأسي.
تعليق جديد