عشتُ عشرين عاما من عمري الناضج قبل العودة إلى بلادي بعد الثورة مباشرة، في واحدة من أعرق "الديمقراطيات التوافقية"، ألا وهي الديمقراطية الهولندية، وحاولت أن أكون مواطنا صالحا وايجابيا ومشاركا يهتم بالشأن العام ولا يكتفي بمصالحه الخاصة، اذ انتخبت بين 2002 و2006 عضوا في المجلس البلدي في مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية للبلاد وواحدة من اغنى مدن العالم (تتجاوز ميزانيتها 20 مليار يورو ل600 ألف ساكن فقط)، ولست أخفي أبدًا إعجابي بهذه الديمقراطية التي يناهز عمرها القرنين من الزمان، ولا تأثري الكبير بأعرافها وعاداتها وتقاليدها وطرق ادارتها للصراع، التي جعلت من هولندا "أكبر الأمم الصغيرة وأصغر الأمم الكبيرة".
وقد حاولت طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي أن أقدم هذه التجربة للاستئناس بها والاستفادة منها تونسيا، ذلك أنني مدرك للفوارق الثقافية والحضارية وللسياقات التاريخية والجغرافية المتباينة بين البلدين، وقد نظمت سنة 2014 مؤتمرا حضرته ثلة من كبار الساسة الهولنديين، للحديث عن خصائص الديمقراطية التوافقية في هولندا، ونظمت مؤتمرا آخر سنة 2016 وأنا وزير في الحكومة الاولى للجمهورية الثانية، لتقديم التجربة الهولندية في الديمقراطية المحلية التوافقية، ولكن قد يبدو أثر مثل هذه الانشطة محدودا على طبقة سياسية جاءت من زمن "المغالبة" في أكثرها ولم تتخلّص بعد من أحقادها الايديولوجية الموروثة من زمن الحرب الباردة وانظمة الحكم الفردية التسلطية القائمة على الاقصاء، فضلا عن بيئة ثقافية عامة أقرب إلى ثقافة حروب البسوس وداحس والغبراء.
فالديمقراطية التوافقية في صيغتها الهولندية تعني ذلك النظام السياسي الذي وضع خلال القرن 19 بواسطة دستور ما يزال معمولا به إلى اليوم، وقد كان لي شرف ترجمة نسخته العربية المعتمدة لدى وزارتي العدل والداخلية في لاهاي الى اليوم، والذي أقر نظاما انتخابيا لا يسمح لحزب واحد بالفوز بالاغلبية، ومن هنا كانت الحكومات الهولندية المتعاقبة "حكومات ائتلافية" بالضرورة، اي انها تضم حزبين أو أكثر غالبا، ولطالما تشكلت حكومات تضم أحزابا متنافسة، بل متناقضة بالمعنى الايديولوجي، من بينها العديد من الحكومات الناجحة جدا كتلك التي قادها "فيم كوك" الزعيم النقابي وقائد حزب العمل اليساري، وعرفت ب"الائتلاف البنفسجي" لأنها ضمت حزبين اخرين احدهما من الوسط والثاني يميني، وقد كان لهذه الحكومة دور كبير في قيام الوحدة الاوربية وتوقيع اتفاقية ماستريخت، وخلاصة القول هنا ان ما يبدو مستحيلا من الناحية السياسية في كثير من بلدان العالم يبدو ممكنا ومتوقعا في هولندا.
وثمة خاصيّة تاريخية تجمع بين الشخصيتين التونسية والهولندية، وهو ما شجعني ولا يزال يشجعني على محاولاتي في تجذير ثقافة "التوافق" ليس سياسيا فقط، بل ثقافيا وحضاريا كذلك، وهي "شخصية التاجر" الكامنة فيهما، اذ معروف عن الهولندي مرونته واستعداده للتفاوض "حتى مع الشيطان" لتقاسم المصالح والمنافع، فالتاجر لا يؤمن بالمغالبة بل يؤمن ب"المفاوضة" التي تجنّب الطرفين الحروب والخسائر الكبيرة وتضمن العيش للجميع، وقد آمنت بما ذهب إليه المؤرخ التونسي الكبير الدكتور الهادي التيمومي في كتابه "كيف أصبح التونسيون تونسيين؟"، والتي خلص فيها إلى أن الشخصية التونسية هي أقرب إلى شخصية "التاجر الفينيقي" الذي يسعى إلى توسيع هامش ربحه لكنه ليس مستعدا للمقامرة أو المغامرة برأس المال، ومن هنا يحق للمؤرخة التونسية صوفي بسيس قولها قبل أيام بأن "سعيّد في قطيعة تامة مع التاريخ الوطني"، ذلك أنه يغامر ويقامر برأس المال التاريخي التونسي، وهو ما لم يفعله اي حاكم من قبله.
وكما يمكن أن يلاحظ أي متابع، فإن أهم الانجازات في تاريخ تونس الحديث والمعاصر قد تحققت بفضل تجليات هذه الشخصية التوافقية، ومن بينها الوحدة الوطنية التي ساهمت في بناء قواعد الدولة الوطنية بعد الاستقلال، والوحدة الوطنية التي قادت الى الحوار الوطني ودستور الجمهورية الثانية بعد الثورة، ففي اللحظات التي يتمكن فيها التونسيون من التوافق فإنهم يبهرون العالم بأسره، وكلما ساروا عكس التوافق دفعوا ببلادهم إلى حافة الهاوية ومزالق الحرب الاهلية، وانا على يقين من أنه لو لا "عقلانية" المعارضة وتمسكها بوسائل المقاومة المدنية السلمية لقاد هذا الانقلاب البلاد إلى كارثة الاقتتال البيني والاحتراب الأهلي.
يذكّرني البعض بين الفينة والأخرى، بأنني كنت أحد المساهمين في ظهور نظرية "الجد المشترك" (الشيخ عبد العزيز الثعالبي رحمه الله) بين حركة نداء تونس ذات العمق الدستوري وحركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، ويسوقون ذلك في شكل تهمة علي التبرّؤ منها واثبات براءتي من تجلياتها، وحقيقة الأمر إنني أتشرّف بهذا المسعى في ايجاد جد مشترك ليس للدساترة والاسلاميين فحسب، بل لجميع التونسيين لو استطعت، فالتونسيون يجب أن لا ينسوا أبدًا أن المشترك بينهم أكبر وأقوى بكثير من المختلف، وأن ادارة تنوعهم السياسي والثقافي يجب أن لا يتم على حساب هذا المشترك الكبير، ويجب أن لا يعتمد منطق الاحتكار او المزايدة او المغالبة او الاقصاء، ولن تخرج تونس من ازمتها وتتجه الى البناء ما لم يعظّم التونسيون المشترك بينهم ويكفوا عن احتكار الحقائق والدعوة الى الاقصاء والزعم بامتلاك ناصية الوطنية او الدين او العدالة الاجتماعية او الحرية، فالتنافس السياسي يجب ان يقوم على قاعدة الاعتراف المتبادل المستدام وهذه قناعتي المستدامة.
أخيرا عليّ التذكير بمسألتين في غاية الاهمية بالنسبة لي، الأولى خاصة، وهي ان الغالب على سنوات الانتقال الديمقراطي لم يكن التوافق خلافا لما يتم الايحاء به.. لقد كان التوافق محصورا في لحظات التألق فقط (انتخابات المجلس التأسيسي، الحوار الوطني، المصادقة على الدستور، حكومة الحبيب الصيد)، وفيما عدا ذلك غلب الصراع والتآمر والمكايدة والاقصاء..الخ. لقد كان التوافق للأسف الشديد ممارسة مقتصرة على بعض القيادات العاقلة والحكيمة، اما الاغلبية فكانت تحركها غالبا دوافع الاستفراد بالقرار واقصاء المنافسين، حتى بلغ الامر مداه مع هذا الانقلاب الأثيم.
أما الثانية، فعامة تتمثل في كون الديمقراطية بصرف النظر عن مختلف صيغها التوافقية أو التداولية التي ظهرت في تجارب الانسانية، هي حالة "توافقية بالضرورة"، اذ هي بالمعنى التاريخي توافق مختلف الاطراف السياسية المتصارعة على الاحتكام لوسائل سلمية في مقدمتها صندوق الاقتراع، وعلى قواعد اللعبة التي تحصر الصراع الممكن في البرلمان والمجالس التمثيلية بأدوات سياسية بدل تحويل البلاد في مجالها العام الى ساحة اقتتال مسلّح.. وهكذا نرى التوافق خاصية الامم المتحضرة المتقدّمة، وعدم التوافق خاصية للمجتمعات والدول المتخلفة.. ومن هنا فالتونسيون وعموم العرب، مخيرون بين اتباع سبيل التوافق والامم المتقدمة أو سبيل الصراع والاقصاء والمغالبة كعموم الشعوب البائسة.