كلا الدستورين اللّذين عرفتهما تونس المعاصرة، دستور 1 جوان 1959 ودستور 26 جانفي 2014، كتب من قبل مجلس منتخب انتخابا مباشرا، المجلس القومي التأسيسي والمجلس الوطني التأسيسي وكلاهما استمرت كتابته بين سنتين وثلاث سنوات.
فكلاهما كان ترجمانا للحظة تاريخية حقيقية، لحظة الاستقلال، ولحظة الثورة وكلاهما جسّد إرادة شعبية واضحة في التغيير، الأول جسّد إرادة إنهاء النظام الملكي وتعويضه بنظام جمهوري، والثاني جسّد إرادة التخلّص من النظام الفردي التسلطي وبناء نظام ديمقراطي مؤسساتي.
هناك علاقة إيجابية تراكمية بين الدستورين، فقد جاء دستور الجمهورية الثانية نتاج المواطن الذي خلقته الجمهورية الاولى، فالشعب التونسي الذي خلقته ستة عقود من الدولة الوطنية المستقلة لم يعد هو الشعب نفسه الذي كان سنة 1956، ولم يعد نظام الفرد الواحد والحزب الواحد يليق به.
فالآن هناك من يريد اقناعنا بأن الحلّ هو دستور الرئيس/السلطان الذي خطُّه بنفسه دون شريك، بطريقة غريبة عجيبة لم نشاهد لها مثيلا حتى في اكثر الأنظمة شمولية، والذي يحتلّ الرئيس بناء عليه مكانة مقدّسة في نظام الحكم، حيث لا تملك أي مؤسسة سياسية، حتى المنتخبة، مراقبته أو محاسبته، فهو من يحاسب ولا يحاسبه أحد، وهو الذي بيده جميع السلطات/الوظائف، وهو الذي يعين ويعزل ويقطع الارزاق والرقاب، تماما كما أراد اقناعنا بأن 25 جويلية 2021 كان انتفاضة تعبّر عن إرادة شعبية على غرار ثورة الحرّية والكرامة.
وهنا أقول، بأنّني لست فقط غير مقتنع بالأمرين، بل أنا على يقين بأن هذا الدستور المقترح هو أمر موحش في حقّ ديمقراطيتنا الناشئة، وخطر داهم على الجمهورية والدولة الوطنية المستقلة ومنجزات عقود من التضحيات والمكتسبات، وأنه سيعمّق أزمة بلادنا في ظرف إقليمي ودولي شديد الخطورة، وأنه سيعزّز الانقسام والصدام بين التونسيين في وضع شديد الحرج يقتضي وحدتهم وتضامنهم وعملهم المشترك، وأنه لن يفضي الى الاستقرار السياسي المطلوب ولن ينتج أي تنمية منشودة.
إذ كان بالمقدور تعديل نقاط الضعف المتفق عليها في دستور 2014، والتوجه الى المستقبل بتوافق عريض بين مختلف القوى السياسية بعيدا عن منطق "المغالبة" والرغبة المحمومة في الاقصاء والمقامرة والمغامرة بالسلم الأهلي والتماسك المجتمعي.
ولكن الاختيار كان معاكسا تماماً من خلال السعي الى المرور بالقوة، والعودة الى قواعد الاجتماع السياسي البائدة والمتهافتة والمتخلّفة، بعد ان استثمرنا في تركيز قواعد عصرية جديدة طيلة العشر سنوات الماضية، وسيقف التونسيون حتماً على ان النوستالجيا والشعبويةْ ولي عنق التاريخ ليس الا هدرا لوقت الامة ومواردها لا اكثر ولا اقل، لان الامور ستعود يوما - قريبا او بعيدا- لاستقامتها وستستأنف تونس مسارها في الانتقال الديمقراطي وستستكمله.