العميد الصادق بلعيد ومن قبلك ومن بعدك ومن خلفك ومن أمامك ومن بين ظهرانيك رئيس الجمهورية وصاحب السلطات وحده لا شريك له، الأستاذ قيس سعيد، ما هكذا تورد اﻹبل.
قيل إنه في أحد البلدان العربية قديمًا كان هناك رجل خبير في رعي الإبل، انشغل بزواجه فقرر أن يطلب المساعدة من أخيه سعد لرعاية إبله، لكن سعد لم يكن على قدر من المسؤولية الكافية ولم يحسن رعايتها. فلما رأى مالك الإبل بعد عودته قال جملته الشهيرة: " أوردها سعد، وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل".
وقياسا على هذه القصة المكثفة، غفوت وصحوت فوجدتني على لائحة المدعوات والمدعويين لقصر الضيافة يوم 4 جوان فهل هكذا يورد الحوار يا أساتذتي؟
بداية، وكما ربتني أمي أشكر من دعاني وإن لم تبلغني الدعوة لولا تفضل الإعلامي القدير إلياس الغربي بنشر القائمة على صفحته وتهاطل المكالمات الهاتفية منذ ذلك الحين.
ثانيا، اكتشفت أنني دُعيت كشخصية وطنية ولطالما كرهت هذه الصفة واعتبرت أننا مواطنات ومواطنون ++ لولا انقلبت علينا اﻷيام بعد خذلان ثورتنا على مدى عشر سنوات واستغلال ذلك الخذلان منذ الصائفة الفارطة لتحويلنا إلى رعايا وإبل تورد بمراسيم ليلية تحاك في "الغرف المظلمة".
ثالثا، اكتشفت أنني دُعيت في إطار ما يراد أن يفهم منه، في الداخل والخارج، انه الحوار الوطني الذي طالبت به المنظمات الوطنية واﻷحزاب السياسية غداة الخامس والعشرين من جويلية. للأمانة التاريخية، كانت تلك المنظمات والقوى قد تفاعلت بكل مسؤولية مع ما أقدم عليه رئيس الجمهورية فاعتبرت أن تفكك الدولة وسياسة التمكين والأخونة والفساد المتفشي في كل المستويات وتوظيف القضاء خاصة للتستر على ملفات خطيرة من ضمنها الاغتيالات السياسية واﻹرهاب وعودة الممارسات القمعية خاصة منذ التحركات الشعبية في جانفي وفيفري 2021، يستوجب لحظة عاصفة توقف العبث.
لكن من باب المسؤولية أيضا اشترطت أن يكون الهدف من تلك اللحظة هو العودة إلى جوهر الثورة وبريقها وسعت إلى ضمان ذلك عبر المطالبة بخطة عاجلة لحل المعضلة الصحية ثم المرور لخطة أكبر لإنقاذ تونس من إمكانية الانهيار الوشيك مع تسقيف واضح لحالة الاستثناء واقترحت أن يتم كل ذلك في إطار حوار جدي وأورد على سبيل المثال ما جاء في بيان الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات الصادر بتاريخ 27 جويلية من ضرورة "فتح حوار جدي تشاركي مع مكونات المجتمع المدني المدافعة عن الدولة المدنية وحقوق الإنسان والمساواة واحترام الحريات، وتشكيل هيئة استشارية متكونة من منظمات وجمعيات وخبيرات خبراء لتحديد خارطة الطريق والرزنامة الضرورية لتحقيقها والخروج من وضعية التدابير الاستثنائية" .
أما وقد عايَنَت جميع تلك اﻷطراف والقوى، إلا من "أغشيناهم فهم لا يبصرون"، يوما بعد يوم وأمرا بعد أمر ومرسوما بعد مرسوم، أن كل ذلك لم يتحقق بل ولن يتحقق وان اﻷمر لا يعدو أن يكون مرورا سريعا لتركيز الحكم الفردي واﻹجهاض على بعض محصلات الثروة التي تم افتكاكها وأنه ما من إجابة فعلية لتطلعات العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية وانه ما من تناول جدي لملفات الفساد واﻹرهاب بل ربما هنالك استنساخ تام للممارسات التسلطية التي عشناها في حكم النهضة وشركائها آخرها إعفاء 57 قاضيا بجرة أمر وبلا محاكمات عادلة تماما مثلما فعل منذ سنوات خلت نور الدين البحيري، فقد تواترت مواقفها التي تبرئ ذمتها من لعب دور شهود الزور أو الكومبارس في هذه المسرحية السمجة.
وفيما يخصني، لا زلت أعتبر أن الحوار هو طوق النجاة الذي يمكن أن ينتشلنا من الخراب، وكنت لذلك قد لبيت دعوة رئيس الجمهورية لي في فيفري 2021 فقد أردت أن أسمع منه وأن يسمع مني خاصة بعد إدلائه بموقفه الرجعي ضد المساواة في الميراث والمساواة بصفة عامة، وبالفعل دار النقاش بيننا وفق موجبات الاحترام والتفهم بل والود أحيانا، لكني رأيت ولا زلت أرى أنه ممن يسمعون ولا ينصتون ولا أدل على ذلك من وعده بتعزيز حقوق النساء بينما أقصاهن من هيئة الانتخابات ويروم التراجع عن التناصف بتبني نظام الاقتراع على اﻷفراد ما سيشكل ردة غير مسبوقة عن حق مكتسب بالنضال النسوي ولا أحسب اليوم أن الحوار المزعوم الذي أطلقه سيحيد عما ألفناه منه من استماع دون إنصات.
ومع أن ابن منظور قد عرف في لسان العرب ”الحَوْرُ بما هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء وهم يتحاورون: أي يتراجعون بالكلام. إذاً فالحوار هو تراجع الكلام والتجاوب فيه فلا أعتقد أن تجاوبا يرجى ممن رفض الحوار على مدى سنة ونصف كما رفض المساواة التامة والفعلية ونكص عهود الديمقراطية.
إذا كان الحوار هو تراجع الكلام والتجاوب فيه فلا أعتقد أن تجاوبا يرجى وقد قرر رئيس الجمهورية منفردا أن يستند الحوار شكليا إلى نتائج استشارة إلكترونية ضعيفة التمثيلية لقلة من استجابوا لها، ومن نتائحها أن عبر 36 % فقط على رغبتهمن في وضع دستور جديد ومع ذلك مضى الرئيس بقوة المراسيم، ومن خلفها مساندة القوات الحاملة للسلاح، إلى استفتاء على دستور جديد. فإذا لم ينصت لمن اتفقوا معه ولبوا نداء استشارته، فكيف سينصت لمن خالفوه الرأي.
وفيما يخصني أيضا، ولأن النساء لا تنخرطن في تجميل محافل السلطة كما يراد لهن أو كما تدعي الجوقة من كارهات وكارهي النساء وممن تستجدين المنصب والبلاط وإن كان على حساب بنات جلدتهن، بل النساء موقف وقرار واختيار وهكذا يشير العالم للتونسيات، ومع أنني لا أرى موجبا للعودة إلى علات 24 جويلية، بل أني كما قاومتهم حكاما وخطابا ومشروعا سابقا، سأظل أناضل سلميا ديمقراطيا، حتى لا يعود من أفسدوا ثورتنا ودولتنا ومجتمعنا لتصدر المشهد ولن اسمح لهم بالتسلل بجبة الضحية، لكنني، في الوقت نفسه ورغم تفهمي لنقاوة السريرة، أكره التخندق باسم العدو المشترك وقد اخترت أن أرفض الظلم والقهر واﻹقصاء الذي رافق مسار 25 جويلية.
أرفض أن تنتهك حريات الخصوم كما اﻷصدقاء، أرفض مساومة حقوق بأخرى ومقايضة الحرية باﻷمن أو المساواة بالعدل، أرفض الاستيلاء على حلم التونسيات والتونسيات في ديمقراطية تامة الموجبات ومن ضمنها الموجبات الاجتماعية والاقتصادية وإيهامهمن بأن الخلل يكمن في الحرية أو في التمثيلية أو في الهياكل التعديلية أو في النخب التقدمية والطلائعية.
وفي النهاية، ومع أن بعض صديقاتي وأصدقائي طلبوا مني الذهاب لقصر الضيافة، ويَرَون في مشاركتي فرصة لتحريك بعض السواكن، وبما أن العميد لمح إلى كون الدعوة على سبيل إسقاط الواجب وأنه لا حرج عليه إن رفض كل من تمت دعوتهمن مثلما رفض عمداء الجامعات ورفض الاتحاد العام التونسي للشغل وما أدراك ما الاتحاد العام التونسي للشغل وعديد الجمعيات واﻷحزاب السياسية، فهو ماض في حواره مع نفسه ومع من يتفقون معه مسبقا، فإن كرامتي اﻹنسانية ووعي المواطني يأبيان علي أن أقبل هذه الدعوة الصورية.