انتهى الجزء الثاني من المسلسل التونسى حرقة2 "الضفة الأخرى". فإذا كنت لا تعرف اللهجة التونسية فليس هذا مهما لكي تشاهده وتفهم لغة الحوار بين الأبطال لأن لغة السينما والصورة فيه هي الأروع والأهم. فهو لا يحتاج لأن تكون تونسيا أو على دراية بلهجة تونس أو حتى اللغة العربية عموماً او الأيطالية والفرنسية في الضفة الأخرى.. فقط الصورة والمشاهد والكادرات هي من يتكلم وينطق طوال الوقت.. إنّه عمل درامي مهم في تاريخ الدراما العربية كلها وليس التونسية فقط.
فإذا كانت النساء في المسلسل لا تضعن مساحيق تجميل للتزين كما تفعل الدراما العربية - المولعة بذلك - مع بطلات مسلسلاتها وبلادها لتزيين انظمتها او الكذب على شعوبها.. فإن مسلسل "حرقة" كما بطلاته وابطاله يقدمهم العمل دون تجميل لهم او لتونس.. لم يضع مساحيق وادوات تجميل على حكايته وقصة ابطاله منذ الجزء الأول حيث الهجرة الغير شرعية "الحرقة" وما عشناه مع ابطاله في الـ"الشقفة – المركب" من رعب ومعاناة وغرق وموت. ثم ينتقل بنا الى الضفة الأخرى محتفظاً بذات الطبيعة دون اللجوء الى التجمل او وضع " Makeup" اجتماعي او طبقي او حتى سياسي على المجتمع التونسي أو الأيطالي.
في كلا الضفتين "التونسية او الأوروبية" الجميع على طبيعته دون تجميل.. ينتقد ذاته قبل ان ينتقد الخارج.. دراما لم تكتب او تصور على اساس ديني او عرقي .. فقط صورت على اساس انسانى.. لوحات من الـ"الجرافيتي" على الحوائط.. ولوحات فنية من الكادرات الساحرة في الشوارع والبيوت وحتى بين اكوام "الزبالة".. لوحات تطنق ولا تحتاج الى ضرورة ان تفهم لغة من يتكلمون بها.. الكادرات لخصت اللغة واقتصرتها على الأحساس.. ستشعر بمعاناة من يعانون.. سترى الوطن العربي كله بمشاكله وهمومه في تونس.. سترى المعاناة للتوانسة في اوروبا وكأنك أنت مواطن عربي من مصر او ليبيا او المغرب والجزائر وسوريا والسودان ولبنان الذي تعيش مع الأبطال وتأخذ مكانهم وتحس بقلقهم وهروبهم وخوفهم..
اللغة هنا هي الإنسانية.. الصورة هي الاكثر حواراً عن الكلام.. لوحات فنية من الكادرات والدراما المهتمة بالصورة ولغتها ومعناها والتي لا تكذب ولا تتجمل.. تونس ليست البطل فيه.. انما "تونس" المختصرة وكانها الوطن العربي كله بوجعه وهمومه ومشاكله.
إنّها دراما مختلفة ظهر المخرج الأسعد الوسلاتي في اخر مشهد فيها ليرسل رسالة مفادها انه لا يتكلم عن المهمشين في تونس بعدسته ومن خلال كاميرا ترصد حالات الهاربين او العائدين. هو يعتبر نفسه من ذات الطبقة.. وإن اختلف مكانه.. من ذات الشريحة وان كان يصورها.. هو من الباحثين عن العودة من الضفة الأخرى.. العودة ليست لتونس الوطن المادي والأرض.. العودة بالفن التونسي الى الصدارة والاختلاف والتميز.
المخرج والسيناريست "عماد الدين الحكيم" كانوا الأبطال منذ البداية وحتى النهاية.. ولكن ظهر المخرج لكي يؤكد انه لا يختلف عن ابطاله ممن قاموا بالـ"حرقة".. فلكل منا حرقته "وهجرته" .. لذا في المشهد الأخير عاد الجميع بما فيهم المخرج.. عادوا دون أن يكذب احد او يتجمل أحد سواء خلف الكاميرا او على الورق او أمام الكاميرا.. لم يتجمل أحد.. لا في الدراما.. ولا في الواقع.. حرقة واحد من اهم الأعمال الدرامية الواقعية التي صنعت لتونس مكانا في الدراما العربية وفعلت سياحة بصرية تصويرية للمجتمع التونسي من الداخل وفي عمق النفس التونسية.. انها حقا دراما لا تكذب ولا تتجمل.