"ماذا يحدث" اليوم في تونس، الشوارع باتت لا تخلو من الحفر والفضلات، الأنهج لا تخلو من أكداس القمامة والفضلات، فوضى وإهمال ولا مبالاة.. "ماذا يحدث" حتى تكون لنا هذا الكم من البناء الفوضوي غير المهيكل الذي لامس بعضه السماء دون أسس قانونية لتشييده أو التزام بالإجراءات المعمول بها. بناء فوضوي، أصبح اليوم من الصعب التعامل معها، بل أصبح من شبه مستحيل إيجاد حلول له، فبين تسوية وضعيته قانونيا وتسويته مع الأرض شوط طويل من الإجراءات والمرافعات والمطالب والاستئنافات.
ولاية جندوبة، واحدة من 24 ولاية في تونس، أنهش البناء الفوضوي جمال أنهجها وشوارعها، عمارات ومساكن أصبحت محيطة بالولاية ومستشرية داخل أحيائها. أكشاك استغلت غفلة أو ثغرة، مسؤول أو فترة لتركيز أعمدتها دون أن يوجد ما يوقف زحفها. في هذا العمل سنعمل على تفكيك ظاهرة البناءات الفوضوية في جندوبة، أسبابها، أرقام حولها، وتأثيرها، من خلال زيارة ميدانية ومتابعة قمنا بها في الولاية.
أولا حتى نفهم المقصود البناءات الفوضوية، هي كل أعمال التعمير التي تتم من دون الحصول على ترخيص مسبق من الجهات الادارية المتخصصة أو دون احترام مقتضيات تلك التراخيص، ويشمل مصطلح البناء الفوضوي البناء في عقارات غير صالحة قانونا للبناء أو في عقارات تصنف في خانة ملك الدولة العام أو الخاص.
أسباب البناء الفوضوي
تختلف أسباب لجوء المواطنين إلى البناءات الفوضوية وتتعدد دوافعها، لكن يبقى تأثيرها واحد، وتبعاتها لا يمكن حصرها.
وخلال بحثنا عن أسباب إقدام المواطنين على البناءات الفوضوية والمجازفة بمستقبل ما هم بصدد تشييده، دون الالتزام بالإجراءات المستوجب الالتزام بها من قبل كل مواطن يرغب في بناء منزل أو مقر أو كشك، وجدنا أن أحد أهم الأسباب هو تعقد الإجراءات القانونية وارتفاع تكلفتها المادية وطول مدة انتظار تسويتها والتي قد تتواصل لأسابيع وأشهر وقد تصل لسنوات.
وخلال جولتنا، استفاض أحد المواطنين الذين رفض الكشف عن هويته خوفا من انتقام البلدية حسب تعبيره، في الحديث عن تجربته الخاصة التي سعى فيها الالتزام بالقانون، لكنه الآن يتحمل تكلفة هذا الخيار، حسب تعبيره، إذ أكد محدثنا أنه حاول الالتزام بطريق القانون وتجنب كل الطرق الملتوية أو المخالفة للقانون لتشييد منزله الخاص على أرضه المهيئة والصالحة للبناء، وإدخال عدادات الماء الكهرباء. لكن للأسف تم تعطيله مرار وتكرار على أعمال البناء، كما أن عشرات المطالب التي تقدم بها للحصول على الماء والكهرباء لم تلقى ردا منذ قرابة العقد من الزمن للآن، ذلك دون الحديث عن الوثائق الإدارية الأخرى والالتزامات وكشوفات إبراء الذمة التي أجبر على الاستظهار بها.
ويتابع محدثا حديثه بأنه بالرغم من سعيه إلى توفير والاستظهار بكل ما يطلب منه، فإنه لم يحصل منذ سنة 2014 على ما يريد. فلا المنزل استكمل أشغال بناءه ولا تحصل على عدادات الماء والكهرباء.
حدثنا طول المدة التي قضاها في الانتظار، وهي مدة أكد كثيرون أنهم غير قادرون على الانتظار مثلها من أجل الحصول على ذلك، بل وأن بعضهم اعتبر ما حدث له سببا في ارتفاع أعداد البناء الفوضوي وشبكات الماء والكهرباء العشوائية التي أصبحنا نجدها في الأنهج.
تشهد تونس في السنوات الأخيرة ارتفاعا مشط في الأسعار، ارتفاعا شمل أيضا تكلفة العقارات وتكلفة تسوية وضعيتها قانونيا، ذلك إلى جانب صعوبة الحصول على قطعة أرض ذات وضعية قانونية واضحة بمبلغ مناسب، كل هذا يصعب مهمة بناء منزل مناسب ويدفع المواطن إلى اللجوء إلى البناء الفوضوي.
في هذا نتحدث على استيلاء المواطنين على أراض على ملك الدولة أو ملك خاص أو التوسع على حساب المساحات العامة أو الأرصفة أو الزيادة في عدد طوابق البناية دون الحصول على التراخيص اللازمة.
ومع ارتفاع نسب الفقر وتردي الأوضاع الاجتماعية لأغلبية التونسيين أصبح المواطن يجازف بكل هذه المخاطر وبكل التبعات القانونية، التي يعتبر تفاديها أسهل بالنسبة له من التعقيدات الإدارية التي يتطلبها بناء منزل، حسب تعبير كثيرين ممن التقيناهم.
الطمع والجشع وحب التملك أسباب تفشي ظاهرة البناء الفوضوي
خلال بحثنا وجدنا أسباب أخرى لتفشى ظاهرة البناء الفوضوي في بلدية جندوبة، هذه الأسباب تتمثل في الطمع والجشع وحب التملك الذي أصاب عدد واسع من المواطنين هناك، بحسب تشكيات بعضهم الآخر.
في حديثه لنا، يعتبر حسنين الدريسي أن الجشع وحب التملك أصبح من الظواهر المنتشرة في ولاية جندوبة، ظاهرة انطلقت مع الثورة حين كانت الدولة غائبة نسبيا، وكانت سببا لانطلاق ظاهرة البناء الفوضوي التي نراها الآن. كما يقول حسنين: "أحيانا تجد من يستحوذ على نصف متر من الرصيف، أنا متأكد أنها لن تنفعه كثيرا، بقدر ما ستمثل عائقا للمترجلين خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة"
تبعات البناء الفوضوي
لا أحد قادر على إنكار تبعات البناء الفوضوي في تونس اليوم، بناء انتشر في كل مكان، نهج وحي حتى أصبح يمثل عائقا وحاجزا للدولة والمواطن، ذلك إلى ما يمثله من تشويه وإفساد لجمالية المدن، إلى جانب ما يساهم فيه من تكدس للفضلات والأوساخ وركود مياه الصرف.
ذلك إلى جانب تأثيرها على المساحات الخضراء والمناطق المخصصة للترفيه والمساحات المفتوحة، لتجعل من أحياء البلدية عبارة عن حظيرة بناء مفتوحة.
لا يمكن أيضا إنكار أن في جزء كبير من البناءات الفوضوية انتهاك لحقوق المواطنين في ممرات وأرصفة آمنة، ما يضطرهم على السير في الطريق ما قد يعرضهم لمخاطر الحوادث. ويعتبر ذوي الإعاقة أيضا من بين المتضررين بشكل مضاعف، خاصة من البناءات الفوضوية المتمثلة في الأكشاك داخل المدن، ما قد يضطرهم احيانا للبحث عن طرق بديلة للوصول إلى وجهتم.
أحياء فوضوية منذ القدم
لئن أصبحت ظاهرة البناء الفوضوي ظاهرة وطنية تشترك في الأسباب والدوافع، وكذلك في التبعات والنتائج، فإنه في ولاية جندوبة نجد أسباب أخرى تفسر تفشى هذه الظاهرة، أسباب تجعلنا نسأل هل مازالت هناك بناءات في ولاية جندوبة ملتزمة بكل الإجراءات الإدارية والقانونية؟
وكان لنا حديث مع الناشط بالمجتمع المدني بشير العبيدي عن أحد الأسباب التي تجعل الأحياء المحيطة ببلية جندوبة أحياء فوضوية. وقد أشار في حديثه إلى يسمى بيع الأراضي "على الشياع" وهي طريقة قديمة غير منظمة يبيع من خلال صاحب الأرض أرضه دون أن يكون مالكا لها بالوثائق.
بموجب الفصل 259 تتحمل البلدية المسؤولية فيما ينشئ على المساحات الراجعة لها بالنظر، كما تتحمل المسؤولية في تطبيق القانون والعقوبات على المخالفين التراتيب والإجراءات الجاري بها العمل. وعلى ضوء ذلك، توجهنا إلى مقر بلدية جندوبة، وهناك التقينا رئيس البلدية عمار العيادي، وجهنا له عدد من الأسئلة حول حالة البلدية وحول عدد البناءات الفوضوية، وأسباب تفشي هذه الظاهرة والحلول التي لدى البلدية للتصدي لهذه الظاهرة في مرحلة أولى ومعالجة تبعات التوسع الذي شهدته في السنوات الفارطة.
ملاحظة: أنجزا هذا العمل في إطار برنامج مراسلو الديمقراطية المحلية "مراسلون" تحت إشراف المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية IFES