منذ مدة، وأنا أراود ذكرياتي للوقوف بـ"باب غدر" في المكان الأكثر ارتفاعا وبردا وخصوصا وحشة وذكريات غريبة في مدينة الكاف، ورغم مرور قرابة نصف قرن على أول دهشتي عند "باب غدر" المهيب الذي يوحي لنا نحن، الريفيون المتسوقون إلى الكاف بخيرات سركونة الحصينة، بالخوف من غدر كمائن "الخيان" (جمع خاين: لص)، فإني ما زلت أخشى هذا المكان الذي طالما لعبت فيه الكرة فوق دهاليز خزانات الماء التي بناها الرومان منذ 18 قرنا وغامرت باقتحام ظلامها مرارا بحثا عن الدواميس السرية التي يقال إنها تخرج من رأس العين وسط مدينة الكاف على انخفاض أكثر من مائتي متر. هذا المكان المهيب حيث الشقاقة، المدخل السري للرهابين، تلك الكائنات المسيحية فاحشة الثراء التي اخترعت طرقا سحرية للتخفي والعيش في عالم مواز.لقد تكرم عليّ صديق المراهقة الطاهر العبيدي بمرافقتي في رحلة قصيرة في البحث عن معنى للوقوف على باب غدر، اليوم.
أنت قد لا تصدق هذا، لكن الكاف مدينة طريفة مليئة بالأساطير الحقيقية المؤسسة وهي تختلف عن كل المدن التونسية بأن تراثها ما يزال حيا قائما وسط أحيائها منذ آلاف السنين، ولو كان الناس قد فضوا مشاكلهم العاجلة لتفرغوا لتراث هذه المدينة العجيبة. باب غدر وحده يمكنه أن يضمن دراما مثيرة لأي فيلم أو مسلسل قيم أو وثائقيا مذهلا، ولا تسألوني "من غدر بمن" في هذا الباب الذي كان يمثل حصن المدينة الشمالي، وأنا لا أصدق الرواية الرائجة من أن "حصان طروادة" من داخل المدينة قد غدر بأهلها وسمح للكولونيل دولاروك قائد عسكر الخيالة باقتحام المدينة من شمالها لأخذ القصبة التركية الشهيرة التي طالما هزمت دايات الجزائر وحمت غرب تونس أو مقر زاوية علي بن عيسى، قلب الطريقة الرحمانية وبقية الطرق الصوفية التي أعلنت الجهاد، أو دار الكاهية عند رأس العين حيث مركز السلطة.
أنا أفضل تفسير أهلي من الريفيين الذين يرون في هذا الباب المنفتح على عالم قفر موحش منطقة خطر وغدر بالمتسوقين، عندما تغادر المدينة من هذا الباب، تحس أنك أصحبت خارج التغطية والحماية والنجدة خصوصا في المساء في مكان لا يصلح إلا لنصب الكمائن واجتراح أشنع الجرائم وتصفية الحسابات والانتقام، وأنا أدركت كبار أهلي "يعمرون المقرون" ما أن يقتربوا من باب غدر، ولا يتخلون عن حذرهم إلا بعد تجاوزه فـ"يكسرون المقرون" أي يثنونه ويخفونه بعناية. وقد نشأت الكثير من القصص والأساطير الغريبة عن جرائم اقترفت في هذا المكان الذي يبدو حقا نائيا وقاسيا ومتاحا للفوضى. ثم إن المكان غير بعيد عن الصخور الشاهقة للدير بارتفاع عشرات الأمتار، حيث توجد شقوق عميقة في الصخر، نشأنا على أن الرهابين (رهابين ورهبان جمع راهب) يدخلونها إلى عالم سري تحت الأرض محمي بالسحر وهم أشخاص مسيحيون خرافيون انعزلوا عن العالم في زمن المسيحية الأرثوذكسية الأولى التي توطدت في هذه الأٍرض قبل 16 قرنا.
لا تستغرب، فإن هذه الأٍرض قد أنجبت القديس أوغسطينوس، ابن الدموع لأن أمه ظلت تبكي عشرين عاما لكي يثوب إلى رشده، فأصبح بدموعها أب المسيحية الأوروبية الذي تجمع الكنائس الكاثوليكية والأنغليكانية والقبطية على اعتباره قديسا، ويعتبره البروتستانت والكلفانيون سيد المنابع اللاهوتية، وتكفل تلاميذه من نوميديا بإعادة أوروبا إلى المسيحية عندما ارتدت إلى الوثنية، وهو الذي قاد المقاومة المسيحية ضد الوندال في شمال إفريقيا، وكل هذا تاريخ ثابت، ولأن الوندال انتصروا، فإن تحول هؤلاء الرهبان إلى العيش تحت الأرض هو سر هذه الأساطير الجميلة، لقد كانوا يملكون عدة خدع للتخفي وحماية الثروات الفاحشة التي جمعوها من إدارة الأرض، كانوا يملكون الذهب الخالص لإدارة علاقاتهم مع بقية العالم، لكن العيش تحت الأرض وربما زواج الأقارب حولهم إلى كائنات شديدة البياض مهقاء albinos مع سمات مميزة مثل العيون الخضراء وست أصابع في كل يد. لا أحد يؤمن اليوم بقصة الرهابين وربما توخوا قطع أصبعهم السادس جراحيا من باب الحذر، أو تحولوا إلى رهابين عصرية، تقود سيارات رباعية الدفع ويحمل كل واحد منها عدة هواتف فاخرة، وانتهت الأسطورة الجميلة؟ لكن التاريخ لم ينته وخصوصا علم الآثار على أمل أن يقتحم ألغاز خزانات الماء الرومانية التي كانت تضمن الأمن المائي الجميل لمدينة الكاف، ولا أحد يعرف كيف تصل من هناك إلى رأس العين، هذا لأن هذه الخزانات التي مر على بنائها تحت الٍأرض 18 قرنا، ما تزال صالحة للاستغلال اليوم.
وقبل أن أنسى، بالله، من هنا، كنا نتسلل في منتصف السبعينات ونحن أطفال لنطل على قصر الرئيس بورقيبة من فوق، نراه صباحا يخرج إلى الحديقة ليتشمس في روب دي شمبر أبيض وشلاكة بنفس اللون، يضعون أمامه كأس عصير برتقال، وحين نمل من مراقبة تلك الأشياء المملة للسلطة الغامضة، يصرخ أكثرنا شقاوة "يا بورقيبة"، ونهرب جميعا ميتين بالضحك إلى باب غدر متذكرين أنه قد يكون حيانا بحركة يده الميكانيكية، وهي أسطورة أخرى، من غدر بمن في "باب غدر"؟
الجواب على السؤال يفقد المكان سحره وغموضه وجاذبيته، لأن الأساطير هي التي تؤسس الحضارات والمجتمعات، كم أحلم بعمل وثائقي أو درامي يكون هذا المكان السحري موضوعا له. حسنا، أنتم تفضلون المسلسلات التركية، وأنا لا أملك من طريقة للدفاع عن ذاكرتي وأساطيري إلا مثل هذا النص، وأنا ممتن لصديقي الطاهر العبيدي الذي تحملن خزعبلاتي ذلك الصباح، على أن أعود إلى المكان حين أرتب هذه الأساطير، على أمل تحويلها إلى شيء ذي قيمة.
،