منذ 25 جويلية ,اليوم الذي أعلن فيه الرئيس قيس سعيد إجراءاته الاستثنائية مستندا إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، انقسم التونسيون إلى 3 أقسام: قسم مع الإجراءات وقسم معادي لها وأخير إختار الحياد أو عدم إعلان رأيه.
وقد انعكس هذا الاختلاف رقميـا، فبرزت صفحات إخبارية بالفايسبوك مساندة (أو تقدم نفسها على أنها كذلك) وأخرى معارضة بوضوح، وصفحات أخرى تحاول فقط نقل المعلومة بخذافرها. وبرزت لدى كل منهم كذلك هاشتاغات ومجموعات خاصة وأخرى مفتوحة بغاية استقطاب المواطنين والتأثير فيهم وتوجيه رأيهم حسب رغبات القائمين والفاعلين في كل شق.
قيس سعيد وتمثل شخصيات كتابات جورج أورويل: رواية 1984 أنموذجا
وانا أتابع المشهد السياسي في تونس وأبحث في كل الأبعاد والأراء المختلفة، جال في خاطري أحد أهم الروائيين الإنجليز والعالميين الذين صاغوا الروايات الدستوبية - السياسية ،جورج أرويل، صاحب إثنين من أهم الروايات في العالم وأكثرها مبيعا في القرن العشرين : رواية "1984" التي كتبها سنة 1949 ورواية "مزرعة الحيوانات" التي نشرت سنة 1945.
أمّا الرواية الأولى، فقد انبنت على فكرة وجود سلطة في ظاهرها انفتاحية وفي باطنها شمولية كليانية تملك زمامها نخبة من أعضاء الحزب الحاكم الذين يلاحقون الفردية والتفكير الحر بوصفها جرائم فكر. ثم هنالك الأخ الأكبر Big Brother ذلك الوجه الموجود على كل شاشة الذي لا يستمع إلى أحد، بل يستمع الجميع إليه، ينفذون أوامره ، يطيعون قراراته ويستجيبون لمشورته. كل من يخالف الأخ الأكبر يحاكم بالخيانة ؛ قول كلمات أكثر من المسموح خيانة ، التفكير الحر وتذكر الماضي خيانة... هو نظام مبني على نظرية الفعل الجماعي التي نشرت أول مرة سنة 1965 مع مانكير السون Mancur Olson .
وخلاصة هذه النظرية أن المجموعة في سبيل تحقيق غاية ما تقوم بفعل جماعي مشترك له نفس الأبعاد والغايات. وكانت غاية النظام فرض نمط عيش محدد وغاية المواطنين الحفاظ عليه. في هذا النظام أقرب شخص إليك يكون عدوك إذا خالفت تغريد السرب.
ونذكر من أهم مقولات جورج أرويل في رواية 1984 :
- "لا يؤسس المرء دكتاتورية من أجل حماية الثورة ؛ يصنع المرء الثورة من أجل إقامة الديكتاتورية ".
- "تكمن القوة في تمزيق العقول البشرية وتجميعها مرة أخرى في أشكال جديدة من اختيارك."
- " نحن نعلم أنه لا أحد يستولي على السلطة بنية التنازل عنها."
- " إذا كنت تريد الاحتفاظ بسر ما، فيجب عليك أيضًا إخفائه عن نفسك."
"لا يؤسس المرء دكتاتورية من أجل حماية الثورة ؛ يصنع المرء الثورة من أجل إقامة الديكتاتورية "
إن معظم الثورات في العالم على غرار الثورة الفرنسية سنة 1789 انتهت بإقامة دكتاتوريات. في هذا الخصوص، يرى معارضو إجراءات الرئيس قيس سعيد بأنّه أقام دكتاتورية بعد الثورة التونسية، فباتت صفحات تلقبه بالإنقلابي وأخرى تمثله بالمستبد، وتم إطلاق هاشتاغات معارضة له مثل #يسقط_الانقلاب و #طلبة_ضد_الانقلاب و #مواطنون_ضد_الانقلاب التي تحولت في حد ذاتها إلى حملة رقمية ذات بعد ميداني لها منسقون وصفحات فيسبوكية على رأسها صفحة "مواطنون ضد الانقلاب". وقد تمكنت هذه الصفحة من جذب إهتمام أكثر من عشرين ألف متابع ( 20749 ) لتشارك معهم كل الأراء والتعليقات والصور والفيديوهات المعارضة للرئيس على رأسها المتعلقة بعضو الهيئة التنفيذية للمبادرة الديمقراطية السيد جوهر بن مبارك.
والمبادرة الديمقراطية هي وثيقة أطلقها شخصيات وطنية لإنهاء تدابير الرئيس، وأبرز بنودها: عودة البرلمان ليتولى تعديل نظامه الداخلي وتشكيل حكومة إنقاذ وطني وإطلاق حوار شامل.
"تكمن القوة في تمزيق العقول البشرية وتجميعها مرة أخرى في أشكال جديدة من اختيارك"
إن بناء الوعي البشري والمواطني مرهون بنظام الدولة والأسس المجتمعية ؛ المنظومة التربوية على سبيل المثال هي أداة ”تمزيق للعقل البشري “وتجريده من العادات والتقاليد والأفكار المسبقة التي تضر بالمجتمع وإعادة تشكيل الفكر العقلي حسب المعايير العلمية والأخلاقية والفكرية للدولة. في الدول المستبدة، لا يمكن أن يدرس الفرد مثلا الديمقراطية وأسسها ولا يكون لهم الحق في التظاهر أو الإحتجاج وما إلى غير ذلك، أما في الدول الديمقراطية، فيدرس الفرد حقوقه وأهميته في المجتمع و يكفل له حق الإحتجاج والمطالبة بحقوقه وما إلى ذلك ...
هنا، يرى أنصار الرئيس قيس سعيد أنه يمثل تونس جديدة ويبعث أملا فقده التونسيون على مدى عشر سنوات . فهو رئيس الجميع يعمل على تمزيق العقول الفاسدة والمنظومة المتواطئة في التلاعب بقوت الشعب وترسيخ نظام بديل لها يكون للعاطل فيه عمل والفقير فيه أمل والطالب فيه مستقبل ... ولإبراز هذه الأراء والأفكار أطلق التونسيون هاشتاغات مساندة للرئيس بعديد اللغات:
- 🇹🇳 #كلنا_قيس_سعيد
- 🇫🇷 #Nous_sommes_tous_Qais_Saeed
- 🇺🇸 #We_are_all_Qais_Saeed
- 🇩🇪 #Wir_sind_alle_Qais_Saeed
- 🇮🇹 #Siamo_tutti_Qais_Saeed
- 🇪🇸 #Todos_somos_Qais_Saeed
- 🇷🇺 #Мы_все_Каис_Саид
- 🇮🇷 #ما_همه_قیس_سعيد_هستیم#
- 🇯🇵 #私たちは皆カイサイードです
- 🇬🇷 #Είμαστε_όλοι_Qais_Saeed
- 🇮🇳 #हम_सब_क़ैस_सईद_हैं
- 🇨🇳 #我们都是_Qais_Saeed
- 🇰🇷 #우리모두_카이사에드
وقد تفاعل مع هذه الهاشتاغات أكثر من مائة ألف شخص إذ وظفوها في تعليقاتهم وصورهم وفيديوهاتهم المنشورة والمتعلقة كلها بالرئيس أو مساندته .من رأيي، لقد أصبح العقل التونسي مشتتا وممزقا بين هذا الكم الهائل من المعلومات والأخبار التي إنبنت على السرعة لا الدقة وعلى الإقتضاب لا التحليل وعلى العشوائية لا المصداقية. فموقع تراست نيوز مثلا يصنف الأخبار إلى زائفة ومفبركة ومضللة ومضرة ووهمية ومثيرة مخادعة ومقوضة وإشاعة وانتقائية وخرافية وساخرة وصحيحة وﺧﻄﺄ ﺗﺤﺮﻳﺮﻱ ومشكوك فيها وغير دقيقة. وفي ظل هذه التدفقات المعلوماتية والتموجات الإخبارية، كيف للمتلقي أن يتعامل معها ؟ وكيف له أن يعلم ما هو الصحيح وما هو غير ذلك ؟ أليست وظيفة الإعلام التثبت قبل النشر والتحليل قبل النقل والتعبير قبل السرعة ؟.
" نحن نعلم أنه لا أحد يستولي على السلطة بنية التنازل عنها"
عبّر معارضو الرئيس قيس سعيد عن أن ما قام به الأخير هو عملية إستيلاء على السلطة وأنه لا يجوز أن تكون السلطة مجتمعة في يد شخص واحد. كذلك فإن إستمرارية التدابير الإستثنائية وعدم عودة البرلمان إلى العمل هو إنقلاب على الشرعية وأن الرئيس لا ينوي التنازل على السلطة.
من ناحيته، عبر الرئيس عن "أنه لا رجوع إلى الوراء". نعم ، التاريخ لا يعود والأيام لا تعود ، كلنا نعلم هذا ، ولكن مالذي لن يعود ؟ هل هو مجلس النواب ؟ أو الدستور ؟ أو القانون الإنتخابي ؟ ... اليوم في دول العالم يكاد لا يكون هناك دولة واحدة بلا برلمان ، فمن بين 195 دولة حسب إحصائيات 2021 ، هناك 79 دولة ذات مجلسين و 113 دولة ذات مجلس واحد، أي ما مجموعه 272 غرفة برلمانية تضم أكثر من 46000 عضو برلماني.
أما بالنسبة إلى الدستور، فهو نتاج امال الشعب التونسي بعد 2011 والمجتمع المدني وكل الهياكل الحقوقية في تونس وتغييره يحتاج موافقتها ، كذلك القانون الانتخابي قد تكون الإشكاليات ليست متعلقة في ذاته بل بتلك الإجراءات التي تتخذها الهيئة قبل الإنتخابات ودائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية بعدها .
كل هذه الأراء المتباينة وجدت المساحات الرقمية لتبسط نفوذها وتطلق عنانها فتبلغ أكبر عدد من المواطنين وتتفاعل معهم ذلك أنه تم رصد أكثر من 10 صفحات ضد الإنقلاب تضم أكثر من 200 ألف شخص وأكبرها صفحة تونس ضد الإنقلاب التي تضم أكثر من 128 ألف شخص ( 128.306).
"إذا كنت تريد الاحتفاظ بسر ما ، فيجب عليك أيضًا إخفائه عن نفسك"
يحدث أحد ابطال رواية 1984 المناضلين وهو وينستون سميث Winston Smith نفسه قائلا ؛ "إذا كنت تريد الاحتفاظ بسر ما ، فيجب عليك أيضًا إخفائه عن نفسك". ولكن كيف يكون هذا في تونس ؟ خاصة مع تواجد مواقع التواصل الإجتماعي على غرار الفايسبوك الذي بلغ عدد مستعمليه إلى 8 ملايين و270 ألف شخص حسب إحصائيات موقع napoleoncat لشهر جانفي 2021.
فالفضاء الرقمي في تونس أصبح مكانا لفضح الأسرار ، الكل مرفوع عليه الستار بحجة أنه شخصية عامة ، حتى النفس قد تبوح بأسرار الذات وتنشر الصور العادية والمركبة والفيديوهات المباشرة والمسجلة والتعاليق التي قد تتجاوز الحدود الأخلاقية وتنتهك الأعراض والحرمات بحجة المعارضة أو المساندة وأحقية الرأي العام في معرفة المعلومة التي قد تكون خاطئة أساسا .عندها حتى الإعتذار لن يفيد، فالأثر قد حصل.
وهناك نذكر بسؤال طرحه طالب لأستاذ العربية قائلا: " ما سبب بلائنا يا أستاذ ؟ ". فأجابه أستاذه : " يا بني، إذا كانت الأخلاق فعل ماضي والوحشية والقتل فعل أمر والسياسيون فاعل والشعب مفعول به والمال مفعول لأجله والفساد صفة والرواتب ممنوعة من الصرف والضمير غائب والمصلحة مبتدئ والوطنية خبر كان والصدق منفي والكذب تأكيد والإنتهازية مفعول مطلق والوظيفة أداة نصب والموظف حرف جر والخزينة إسم مجرور والفقر حال الناس والأوجاع ظرف والحياة جامدة والسرور مستثنى ، فإن البلاء تعميم ".
هذا هو حال الواقع الإفتراضي في تونس اليوم والمجال السياسي كل يوم، وواقع الناس في كل لحظة. فهل الرئيس قيس سعيد هو المناضل وينستون Winston أو الأخ الأكبر Big Borther؟ هذا ما لا استطيع الإجابة عنه بل ستثبته الأيام.
يتبع الجزء الثاني