طيلة 23 عاما لا أذكر أنني سمعت الرئيس بن علي رحمه الله يستعمل عبارات من قبيل "خونة" و"عملاء" و"مرتزقة" في خطابات رسمية رغم سيرته التسلّطية الفردية.
فحتى في قمّة خصومته مع الإسلاميين وغير الاسلاميين ممن لفّقت لهم زوراً بعض تهم التعامل مع الخارج من قبيل الراحل محمد مواعدة رحمة الله عليه..بل لعلّ الكلمة الأقسى التي استعملها في اجتماعاته المغلقة ومكالماته الهاتفية مع مساعديه، خصوصا في أيامه الأخيرة هي "اخوانجية " وهي على أي حال كلمة دارجة لم تعد لها تلك الدلالة السلبية دائما.
ولا أذكر من زمن الزعيم بورقيبة ما يحيل إلى نعت الخصوم السياسيين بمثل هذه المصطلحات المزاجية التي تنتمي إلى قاموس الانظمة الاستبدادية المشرقية التي تمتلك الحقيقة "الوطنية" و"القومية" و"الطبقية"، ولا تعترف بالتعددية السياسية والفكرية وغالبا ما تستعين بأجهزة صلبة، عسكرية وأمنية ومخابراتية، جرى بناؤها على مقاسها وعلى قاعدة عقائدية خلافا لأجهزة الدولة التونسية التي لا اعتقد البتّة أنّها مستعدّة لتنفيذ مقتضيات المزاج السياسي لأي حاكم مهما كان.. ومن هنا حيرة هذا الحاكم المستسلم لمزاجه حتّى الثمالة.
حفظ الله تونس من شرور أصحاب الأمزجة، خصوصا المتقلّبة منها.
والأحزاب السياسية التي انتخبها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي، هي المسؤولة أوّلا عن الدفاع عن الشرعية الدستورية والديمقراطية واستعادتها، ووظيفة المجتمع المدني دعمها واسنادها وليس العكس.
وليس كل المجتمع المدني مؤهل لذلك بل المجتمع المدني النضالي الذي كان موقفه من الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي واضحا بيّنا لا يقبل المساومة على أسس الديمقراطية وثوابتها ولا تحرّكه دوافع ايديولوجية تبرّر له الازدواجية والمسايرة و"التزمير".
فإن فرّطت هذه الاحزاب السياسية ذات الشرعية الشعبية في وظيفتها ودورها فلا تلومنّ إلّا نفسها، وإن رضيت بالدنيّة في ديمقراطيتها لصالح أطراف فقدت الكثير من مصداقيتها بملأتها الانقلاب فلا تبكيّن على "مصيرها" البائس المنتظر جرّاء هذا الشعور غير المبرّر بالدونية.. أيها الديمقراطيون حقّا اتحدوا.
والربيع العربي كالثورة الفرنسية، حركة تاريخية متعدّدة الموجات والفصول والوجهات والتأثير ببعديه الزماني والمكاني، ولن تتوقف هذه الحركة حتى تدخل هذا العالم العربي في سياق الحداثة السياسية والنهضة الحضارية، شهدنا موجتها الأولى سنتي 2010/2011، وموجتها الثانية سنتي 2018/2019.
وستظل تؤتي أكلها كل حين، حتى يصبح الاستبداد والديكتاتورية مجرد صفحات سوداء وذكريات مؤلمة في الذهن العربي الجمعي.
والدور قادم على الجميع في المنطقة، ومن لا يقرأ التاريخ لا يمكنه استشراف المستقبل، ومن ظنّ أن بمقدوره فهو واهم، وإن غدا لناظره لقريب، فالانتكاسات جزء من هذه الحركة التاريخية ودافع لها في الاتجاه السليم، والمستقبل دائما للحرية والديمقراطية.