لطالما استهواني عالم الصحافة والاعلام منذ الصغر وبات حلمي الذي كرّست له سنوات من الدراسة ومتابعة القنوات العربية والأجنبية والتركيز في أدقّ التفاصيل، حرصت على تقمّص دور المذيعة أمام المرآة تارة ومع الأصدقاء تارة أخرى... انتظرت بلهفة حصولي على شهادة البكالوريا لأحقّق حلمي وأتمرّد على ضغوطات عائلتي وأنطلق في رحلة البحث عن الذات في مجال الاعلام.
أوّل سنة في معهد الصحافة وعلوم الاخبار كانت سنة تمهيدية يبحث فيها كلّ منّا عن نقاط قواه ويحاول تدارك نقاط ضعفه، أمّا السنة الثانية فقد كانت خيبة أمل لطالبة طموحاتها ارتطمت فجأة بما يسمّى بـ "ثورة 14 جانفي" ولم يتسنّى لنا آنذاك تعلّم أبجديات مهنة الصحافة على أكمل وجه ولا الحصول على تربّصات لتطبيق ما قدّم إلينا، أصبحنا كالدمّى مسيّرين وفق الأوضاع السياسية، أسبوع دراسة بالعاصمة وأسبوعين في المنزل في انتظار استيعاب المستجدّات والمتغيّرات التي آلت إليها البلاد.
حصلت في السنة الموالية على الاجازة التطبيقية في الصحافة وكلّي فخر واعتزاز وأمل في مستقبل مهني واعد، لكن هيهات... قضيّت قرابة سنة أبحث عن فرصة لكسب الخبرة اكتشفت خلالها أنّ العالم الذي رسمته في مخيّلتي غير موجود فقرّرت تطوير مكاسبي وتحصّلت على الماجستير المهني لأتفاجئ لاحقا أنّ سنوات الدراسة بمعهد الصحافة نقمة وليست نعمة لأنّ الميدان الإعلامي بات مرتعا للدخلاء وفرص الحصول على عمل تحسم إمّا في جلسات مشبوهة أو بتدخّلات من أصحاب القرار ولا علاقة لها بالكفاءة ولا الزاد المعرفي ولا الخبرة.
تحوّل المشهد الإعلامي في تونس الى مستنقع يتصدّره خرّيجي الانستغرام واليوتيوب الذين يبحثون عن اثارة "البوز" عن طريق الاسفاف والابتذال لحصد أكبر نسب مشاهدة بغضّ النظر عن المحتوى، مشهد إعلامي يرثى له جعل من الحمقى الفاقدين للمؤهلات العلمية والثقافية مشاهير يبدون آرائهم في الشأن العام على حساب عشرات من الكفاءات من خريّجي معهد الصحافة وأهل الاختصاص، وهنا نطرح تساؤل لماذا تستباح مهنة الصحافة دون غيرها من المهن؟ لماذا يتطفّل كلّ من هبّ ودبّ على أبناء القطاع؟ لماذا لا نجد دخلاء في المهن الأخرى؟
أبناء القطاع يعانون من سنوات من التهميش والبطالة والفقر المدقع ممّا دفع الكثيرين الى ممارسة مهن حرّة لكسب قوتهم، فكيف لصحفي أن يتعايش مع أوضاع اقتصادية واجتماعية متردّية وهو يتحصّل على أجر زهيد دون عقد عمل ودون ضمان اجتماعي؟ كيف لصحفي أفنى سنوات في الدراسة والمثابرة أن يجد نفسه يتحصّل على ملاليم مقابل آلاف الدينارات يحصدها من يسمّى بـ ''الكرونيكور''؟ كيف لصحفي محترف أن يقبل بالخضوع للأوامر والتخلّي عن مصداقيته وموضوعيته؟
أنا اليوم وبعد مرور قرابة الـ 10 سنوات من حصولي على الاجازة في الصحافة قرّرت فعليا التخلّي عن الشهادة وركنها في سلّة المهملات، قرار ولو جاء متأخّر لكنّه سيمنع ضميري من تأنيبي يوما ما ويجنّبني الدخول في حالة من الإحباط وجلد الذات.. ابتداء من اليوم سأنطلق في رحلة جديدة رحلة البحث عن حرفة يدوية أو تكوين في أحد المجالات لكسب المال فقط لا غير، فالطموح واثبات الذات لم يجديا نفعا ولن يكون قطعا قرارا صائبا في تونس مع رئيسها الحالي الذي شهد الصحفيون منذ توليه الحكم ارتفاعا في وتيرة الانتهاكات والتوقيفات والمحاكمات إضافة الى منعهم من النفاذ الى المعلومة وتضييق الحريات وصولا الى تجاهله لملفات المؤسسات الإعلامية المصادرة.