بدأت المنطقة العربية تعاني بشكل واضح من تأثيرات تغير المناخ. ويتجلى ذلك في فترات الجفاف الطويلة، ونقص المياه، والتصحر، وخسارة النظم الطبيعية، والتدهور الساحلي، وازدياد العواصف الغبارية. ومع ذلك لا يزال الوعي بهذه التحديات وما يجب القيام به على مستوى الدولة والمؤسسات والأفراد محدوداً في المنطقة. وفي حين تساهم البلدان العربية بنحو 5 في المئة فقط من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، لكنها ستكون أكثر المناطق تأثراً بتغير المناخ، إذ يتوقع أن تواجه زيادة في معدلات الحرارة قد تصل الى 5 درجات مئوية مع نهاية هذا القرن، فتصبح فصول الشتاء أقصر وفصول الصيف أكثر جفافاً وسخونة، وتزداد وتيرة موجات الحر والجفاف والأحداث المناخية المتطرفة.
وسوف يكون تأثير تغير المناخ وخيماً بشكل خاص على الوضع المائي الذي يعتبر حرجاً أصلاً، اذ تقع البلدان العربية في أكثر المناطق جفافاً في العالم، ويعاني معظمها ندرة مائية حادة، وهناك حالياً أكثر من 50 مليون عربي يفتقرون الى مياه نظيفة. ومع تغير المناخ يتوقع أن تواجه المنطقة نقصاً خطيراً في الأمطار وازدياداً في معدلات التبخر فيتفاقم نقص المياه.لذلك يوصي الخبراء باعتماد تقنيات الاقتصاد بالمياه في جميع القطاعات، وخصوصاً تشجيع المزارعين على الأساليب الاقتصادية في الري مثل الرش والتنقيط بدل الغمر، لأن الزراعة تستهلك نحو 85 في المئة من المياه في المنطقة العربية.
ونتيجة اشتداد الجفاف وانخفاض هطول الأمطار والتبدل في طول الفصول، إضافة الى ازدياد انتشار الآفات بسبب ارتفاع درجات الحرارة، يقدّر أن ينخفض الإنتاج الزراعي الى النصف وأن يترافق ذلك مع انتشار حالات سوء التغذية. كما يترافق نقص المياه الصالحة مع مشاكل صحية مثل الإسهال والفشل الكلوي وأمراض الجلد.
في ما يأتي إضاءة على تدهور الأمن المائي والغذائي نتيجة تغير المناخ وانعكاساته على الصحة في ثلاثة بلدان عربية هي السودان وتونس والعراق.
السودان تحت خط الفقر المائي!
أقرّت وزارة الري والموارد المائية في السودان بأن هذا البلد الذي يبلغ إجمالي عدد سكانه 40 مليون نسمة مصنف ضمن الدول الواقعة تحت خط الفقر المائي. فحصة الفرد من المياه تبلغ نحو 750 متراً مكعباً سنوياً، أي أقل من الحصة الموصى بها من الأمم المتحدة والبالغة 1000 متر مكعب سنوياً. وأوضحت إحصاءات الوزارة أن إجمالي المياه المتاحة يبلغ نحو 30 مليار متر مكعب سنوياً، ويتألف من حصة السودان من نهر النيل البالغة 18.5 مليار متر مكعب بالإضافة إلى المياه الجوفية ومياه الوديان والجداول الخريفية.
هذا الفقر المائي يبدو غريباً في بلد معروف بثروته الحيوانية والزراعية التي تهيمن على موارد المياه فيه. وأشارت الوزارة إلى أن تصنيف السودان تحت خط الفقر المائي "صادم" إذ من الراسخ في الأذهان أنه بلد غني بالمياه.
وتتفاقم قضايا المياه مع تغير المناخ. ويتميز السودان بمناخ جاف وشبه جاف في 72 في المئة من مساحته، حيث تتأثر 13 ولاية بالتصحر بدرجات متفاوتة تتراوح بين الشدة في الشمال الجاف والاعتدال في الجنوب الرطب. ويهدد الجفاف المتزايد قطاعي الزراعة والرعي، وخاصة في المناطق الريفية حيث يعيش نحو ثلثي السكان. ويعتمد الاقتصاد السوداني بشكل كبير على الزراعة، لكنه عرضة للصدمات المناخية وانخفاض الإنتاجية بسبب الممارسات الزراعية غير الملائمة. وحذر تقرير دولي عام 2021 من أن السودان على رغم ثروته الزراعية سيكون البلد الذي يواجه أكبر خسارة في ناتجه المحلي الإجمالي بسبب تغير المناخ.
وقالت رانيا الصادق، خبيرة المياه في وزارة البيئة السودانية، في مقابلة مع علاء الياس مختار: "تواصلنا مع العديد من الضواحي والمناطق الريفية، ويمكنني أن أقول بثقة إن أعداداً كبيرة من السودانيين عطاش ولا يحصلون على مياه الشرب النظيفة". كما تعاني البلاد من تلوث المياه بسبب الجهل وعدم إنفاذ القانون والتثقيف البيئي، ولكن بشكل رئيسي بسبب الصناعات وأعمال استخراج الذهب التي تلوث المياه الجوفية التي يعتمد عليها 60 في المئة من السكان للشرب.
ويؤدي تغير المناخ إلى تفاقم الوضع المائي. وأشارت الصادق إلى أنه "يمكننا أن نرى عواقب الجفاف المتكرر وندرة مياه الأمطار خلال السنوات العشرين الماضية أكثر من أي وقت مضى. ويتجلى ذلك في نزوح أعداد من السكان نحو الشمال بحثاً عن موارد المياه، كما يتجلى في الاشتباكات القبلية على المياه في دارفور".
ويرتفع معدل درجات الحرارة بشكل ملحوظ في البلاد، ومن المتوقع أن تصل الزيادة إلى ثلاث درجات مئوية في أغسطس وإلى درجتين في يناير بحلول سنة 2060. كما بدأ السودان يشهد انخفاضاً في هطول الأمطار جنباً إلى جنب مع فترات الجفاف المتكررة. ومن المتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى خفض إمدادات مياه النيل بنسبة 20-30 في المئة خلال الأربعين سنة المقبلة وانخفاض احتياطات المياه الجوفية بنسبة 40 في المئة، وستكون مناطق كردفان الأكثر تضرراً.
هل يؤثر تغير المناخ على الصحة في السودان من خلال تفاقم فقر المياه؟
أجابت رانيا الصادق: "لقد أثر تغير المناخ على الصحة عموماً في السودان". فمن ناحية، تتزايد الأمراض المرتبطة بسوء التغذية نتيجة الجفاف، خاصة أن السودان بلد زراعي ويعتمد معظم سكانه على محاصيلهم لتأمين الغذاء. وقد تم تسجيل مستويات عالية من سوء التغذية الحاد والتقزّم، ويعاني واحد من كل ثلاثة أطفال سودانيين من سوء التغذية. وسوف يتفاقم الوضع مع انخفاض إنتاج الغذاء بسبب تغير المناخ.
أضافت الصادق: "نشهد أيضاً زيادة في الأمراض المرتبطة بالجفاف ونقص مياه الشرب النظيفة، مثل الفشل الكلوي وأمراض الكبد والإسهال وأمراض القلب والحساسية. لكننا نشهد أيضاً زيادة في الأمراض المتوطنة مثل الملاريا والتيفوئيد. لسوء الحظ، ليس لدينا بيانات محددة للأمراض المرتبطة بتغير المناخ، لكن التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ووزارة الصحة السودانية تقول الكثير عن الزيادة في أعداد المرضى".
ماذا ينتظر تونس مائياً؟
تعتبر تونس من بين البلدان الأكثر تأثراً بانعكاسات التغيرات المناخية. ويتجلى ذلك بشكل خاص في ندرة المياه نتيجة عدم انتظام الأمطار وتواتر فترات الجفاف التي تطول أحياناً إلى ثلاث سنوات.
وقد عانت تونس خلال العام الجاري من فقر مائي حاد، علماً أنها تعتمد على النشاط الزراعي الذي أصبح مهدداً بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة. فقد ساهم ذلك في تبخر جزء من المخزون المائي وجفاف الأراضي الزراعية مما زاد الطلب على المياه. وتزامن ذلك مع انخفاض هطول الامطار وما نجم عنه من عدم تجدد المياه الجوفية، مما أدى أيضاً إلى انخفاض كميات المياه الصالحة للشرب والري. وقد أكد المتخصص في التنمية والموارد المائية حسين الرحيلي اتساع رقعة العطش في تونس وتكرر انقطاعات مياه الشرب، خصوصاً في ولايات صفاقس ونابل وسوسة هي الولايات المتصدرة لانقطاعات المياه.
وتزداد هشاشة الوضع المائي بسبب التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لتغير المناخ على القطاعات التي تعتمد بشدة على المياه، وعلى النظم البيئية التي تزداد تلوثاً وخسارة للأنواع الحية. وتشير النماذج المناخية التي يدرسها المعهد الوطني للأرصاد الجوية إلى أنه في سيناريو متوسط المدى ستشهد تونس زيادة في معدل درجات الحرارة تتخطى درجة مئوية واحدة بحلول عام 2050 وأكثر من درجتين بحلول عام 2100، وسوف ينخفض هطول الأمطار بنسبة 20 في المئة بحلول عام 2100، وتصبح الأحداث الشديدة مثل الفيضانات والجفاف وموجات الحر أكثر تواتراً.
وأصدر قسم العدالة البيئية في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أغسطس 2022 بياناً أشار فيه إلى أن الكثير من التونسيين ما زالوا إلى اليوم محرومين من حقهم في الماء الصالح للشرب ومن خدمات الصرف الصحي، وهو ما يعد انتهاكاً صارخاً لحقوقهم في الصحة والعيش الكريم، مضيفاً: "آلاف التونسيين يعيشون تحت خط الفقر المائي، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد 400 متر مكعب سنوياً، وهي كمية أقل بكثير من 1000 متر مكعب الموصى بها من منظمة الصحة العالمية". ويتوقع أن تصل هذه الحصة إلى 350 متراً مكعباً للفرد سنة 2030.
مما لا شك فيه أن للفقر المائي تأثيرات سلبية على صحة المواطنين في تونس. فنقص المياه النظيفة يزيد إصابات الإسهال وأمراض الجلد والكلى وغيرها. وسوف تتفاقم هذه المشاكل الصحية مع ازدياد الندرة المائية نتيجة تغير المناخ. وفي حوار مع أميمة طرابلسي، أشار المهندس البيئي الخبير في الشأن المناخي حمدي حشاد إلى غياب استراتيجية واضحة للتصرف بالثروة المائية. وأضاف: "تعهدات الدولة هي مجرد وعود. لقد نص دستور 2014 على الحق في المياه الصالحة للجميع، ولكن تم إلغاء ذلك في دستور 2022. لذلك لا بد من تصحيح الوضع وإقرار وتنفيذ استراتيجية شاملة لمواجهة أزمة المياه المستفحلة في تونس".
العراق: مخاوف من موجات نزوح جماعية
ينظر الحاج محمود بحسرة إلى أشجاره التي يبس معظمها بفعل العطش وموجة الحر. فقد شحت مناسيب مياه الري الواصلة إلى أرضه الزراعية في منطقة الطارمية التي تبعد 50 كيلومتراً شمال العاصمة العراقية بغداد. وهو يقول ان المياه الواردة للمنطقة انخفضت بمقدار النصف عن العام الماضي بسبب استخدام نظام جديد فرضته السلطات الرسمية بسبب الشح، وهو يسمى "نظام المراشنة" الذي يعني ضخ المياه بالتقسيم بين قطاع زراعي وآخر في فترات زمنية معينة، شاكياً أن "الأيام المخصصة لأرضنا لا تكفي لري جميع المحاصيل".
وتأتي موجة الجفاف التي تضرب العراق بعد أن قطعت إيران من جانبها معظم الروافد المائية الواصلة إلى العراق، في حين تبني تركيا منذ سنوات مشروعاً ضخماً على نهري دجلة والفرات يعرف باسم "مشروع الغاب" ويضم 22 سداً مما اجتزأ حصة العراق من مياه النهرين.
ويعتمد العراق على البلدان المجاورة مثل تركيا وسوريا وإيران لتوفير مصادر المياه العذبة التي تتدفق إليه عبر نهري دجلة والفرات ونهر الكارون. وأدت سلسلة السدود الكبرى التي أنشئت على مجاري هذه الأنهار إلى انحسار مناسيب الذروة الفيضانية التي كانت تحدث طبيعياً في الربيع، ما زاد هشاشة الأنظمة الايكولوجية المرتبطة بها، ومنها الاهوار العراقية.وتسيطر تركيا على اكثر من 90 في المئة من المياه التي تصب في نهر الفرات و44 في المئة من مياه نهر دجلة. وقد قطعت السدود التركية تدفقات نهر الفرات الى الدول المجاورة بنسبة 60 في المئة، مما تسبب ايضاً بنقص الغذاء والطاقة في سوريا، كما تسبب في تفاقم ازمة المياه في العراق، وهو ما قد يؤدي الى خسارة ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص قدرتهم على الوصول الى المياه المأمونة.
وأدى الجفاف إلى اختفاء مساحات مائية واسعة جداً من هور الحويزة على الحدود مع الجارة الشرقية إيران، وهور الجبايش الذي يعد مقصداً سياحياً إلى الجنوب، وتحولت هذه المستنقعات إلى أرض جافة متشققة، كما لم يبقَ من هور أم النعاج سوى برك موحلة هنا وهناك. وتنتشر خطوط جافة لجداول كانت تنحدر عبر مستنقعات الأهوار التي كانت خصبة ذات يوم وأدرجتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي عام 2016. وفي ظل هذا الانخفاض الحاد في المياه حذرت منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة (فاو) في تقرير هذه السنة من أن الأهوار أصبحت إحدى أفقر المناطق في العراق وأكثرها تضرراً من تأثيرات تغير المناخ.
وفي محافظة ديالى التي تعتبر "سلة العراق الغذائية" يتلف العطش آلاف الدونمات الزراعية، ما تسبب بنزوح مئات الفلاحين من مناطق سكنهم تاركين خلفهم حيوانات نافقة وأراضي قاحلة.وفي المحافظة ثلاث بحيرات رئيسة هي سد حمرين وسد الوند وسد العظيم وقد تعرضت جميعها للجفاف، حتى أن بحيرة حمرين اختفت بشكل كامل.
وقال مدير مفوضية حقوق الإنسان في ديالى صلاح مهدي إن المحافظة شهدت في الآونة الأخيرة "نزوحاً اقتصادياً" بسبب تداعيات الجفاف الذي ضرب 70 في المئة من مناطقها، خاصة أن تلك المناطق تعتمد بنسبة تصل إلى 65 في المئة على الزراعة بشكل مباشر.وأضاف: "عشرات الأسر بدأت تنتقل من الريف إلى المدن، فضلاً عن تفضيل أرباب الأسر للعمل في مهن أخرى وترك الزراعة التي أصبحت بنظر الكثيرين قطاعاً خاسراً في ظل ظروف قاهرة متعددة أبرزها الجفاف".
واعتبر الخبير البيئي تحسين الخفاجي الموسوي أن "العراق يمر بأكبر أزمة مائيةفي تاريخه، لاسيما وأن 90 في المئة منأراضيه الزراعية أصبحت مهددة بالتصحر بسبب الجفاف".
وشهد العراق موجات حر شديدة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة مع درجات حرارة تجاوزت 50 درجة مئوية. وحذرت الأمم المتحدة من آثار تغير المناخ على العراق باعتباره "خامس أكثر دولة في العالم هشاشة من حيث شح المياه والغذاء". وقد حددت وزارة البيئة العراقية مؤشرات التغير المناخي في البلاد بأربع نقاط أساسية هي: ارتفاع معدلات درجات الحرارة، قلة التساقط المطري، ازدياد شدة هبوب العواصف الغبارية، نقصان المساحات الخضراء.
هذه التغيرات تهدد الأمن الغذائي نتيجة تراجع الموارد المائية وتقلص الإنتاج الزراعي وتدهور الغطاء النباتي وفقدان التنوع البيولوجي، فضلاً عن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية وانتشار الأمراض وتفاقم الأوبئة. وتشير وزارة البيئة العراقية إلى زيادة معدل الوفيات وحالات سوء التغذية والإصابات ببعض الأمراض التي قد تنتقل بالمياه الملوثة نتيجة نقص المياه الصالحة للشرب والاستعمال، وكذلك الكوليرا والملاريا والتيفوئيد، وأمراض الجهاز التنفسي كالحساسية والربو والأزمات القلبية الناجمة بشكل خاص عن موجات الحر والعواصف الغبارية. ويشهد العراق حالياً نحو 100 يوم غباري ورملي في السنة، مع توقعات بالوصول إلى عتبة 300 يوم سنوياً بحلول 2050 مع تفاقم القحط والجفاف نتيجة تغير المناخ.
أعدّ هذا المقال المشترك: آلاء الياس من صحيفة "الأضواء" السودانية، أميمة الطرابلسي من موقع "ماذا يحدث" التونسي، عبدالرشيد الصالح من صحيفة "المدى" العراقية، ضمن برنامج صحافي تنظمه مؤسسةCandid Foundation في برلين لتغطية قضايا تغير المناخ.